سعيـــد عـــدي:
هناك.. بين عبق التاريخ، وعظمة الجغرافيا، وغنى الذاكرة، يلمح قصر آسا من بعيد في شموخ وكبرياء يطاول التاريخ، يتراءى وسط أسواره كتاج ذهبي عتيد، لا يبالي بالزمن، بل يوغل فيه قافلا ليروي لنا حكايات الأجداد، عظماء مروا من هنا، وهم في السفح يرقدون، بل إن أديم أرض الأمان وجبل النحاس باتت من أجسادهم، وكل بناء هو من لحم وعظام، لا يعوزه سوى لغة الكلام، وصمته ضجيج ملاحم وأعلام.
جنوب شرق مدينة كليميم، وعلى بعد 110 كيلو متر منها تستقبلك مدينة آسا التي تختفي جغرافيا وراء فج أمزلوك، متربعة بين جبال باني والواركزيز، لربما كان ذلك سببا في تسميتها بآسا المشتقة من صيغة التأنيث (تيسيت) وهي الأرض المنخفضة أو المنخفض الجبلي.
يفصل بين آسا المدينة المعاصرة وآسا المدينة القديمة حاجز طبيعي يتمثل في الواحة الممتدة على نحو كلمترين ونصف من الأراضي المسقية والبورية، تضللها حوالي 30 ألف نخلة سامقة فوق فرشة مائية غنية بعذب مائها الفياض الذي يسمع خريره من كل الأرجاء، وهو من أسباب تنوع غلال الواحة بين التمور والحناء والتين والزيتون ومختلف الزروع والحبوب والنبات، يغذيها وادي آسا الذي يخترقها ليغذي سهول وادي درعة في جهة الجنوب.
آسا المدينة القديمة استحال بعضها اليوم الى طلل بعد عين، معلمة أثرية قابعة فيما وراء النخيل عرشها على جبل نحاسي داكن اللون، يرتفع على سطح الأرض بما ينيف عن 200 متر، يطوق القصر سور عظيم يحوي سبعة أبواب ومثلها أبراج المراقبة، تقفل الأبواب وتفتح وفق نظام داخلي يحدده ال” أمغار”، يتحدد بإقفال الأبواب الستة الفرعية عند مغيب شمس كل يوم، وقد علم كل قوم مدخلهم، من تخلف عن الموعد فلينتظر قرار الشيخ الذي يبث في أسباب تأخره، مساطر عرفية تطبق كذلك على الغرباء كالتفتيش وتحديد مدة الإقامة وحسن النوايا من أجل ضمان أمن السكان، وحمايتهم من إغارات “الزرقان” في زمن لم تعرف فيه الصحراء إماما شرعيا، وصفت البلاد حينها بكونها “سائبة”.
ينقسم قصر آسا الى قسمين:
إداومليل: في القسم العلوي، ويدل هذا التوصيف على السكان المستقرين قرب مباني ذات طلاء أبيض قيل أنها مسجد وأضرحة، ذلك ما يدل عليه الاسم المركب من “إد” التي تفيد النسبة وتحل محل (آيت- أهل-آل) و كلمة “أومليل” التي تفيد اللون الأبيض.
إدونكيت: في القسم السفلي، وتدل الكلمة أيضا على السكان، فبعد أداة النسبة “إد” نجد بأن الكلمة تحتوي على كلمة “إنكي” التي تفيد السيلان، وعلاقتها بالسكان الموصوفين بهذا الاسم مرور مجرى مائي بالقرب من محل سكناهم، أو هكذا تروى الرواية.
ينحدر سكان القصر من أصول مختلفة، فيما تؤكد بعض النصوص بأن سكان القصر الأقدمون ينحدرون من الفرع الغربي لأبناء كوش ابن حام ابن نوح، وتنسبهم روايات أخرى الى الأكاديين والكنعانيين القدماء.
يجهل تاريخ بناء القصر، لكن الوثائق التي يحتفظ بها السكان تدل على أنه موغل في القدم، عمره يناهز آلاف السنين، وهو أقدم بناء أثري في غرب الصحراء، في انتظار ما ستأتي به الحفريات في هذا الصدد سوف نسلط الضوء على ما يبدو للعين جليا من شكل هندسي هلالي متناسق مع التلة التي بنيت فوقها مساكن متراصة البنيان يصل عدد غرف كل منزل الى 30 غرفة موزعة على ثلاث طبقات في معظمها مخلفة تحتها أزقة ضيقة تسمى محليا ب” تسواك” تفضي الى أزقة رئيسة يعرف كل منها ب ” الدرب” يفضي كل درب الى باب من الأبواب الستة الفرعية، وتسمى دروب القصر غالبا بأسماء العائلات العريقة التي تسكن كل درب، فنجد “درب باحسي” و”درب إهرسن” .
يبني سكان قصر آسا منازلهم بإعتماد مواد أولية بسيطة كالطين المدكوك الممزوج بالقش، ويتم تسقيفها بجذوع وسعف النخيل، أما الطلاء فيستخلص من الأحجار الصلصالية كما تستخلص بعض الأصبغة من الحجارة والنبات على سبيل الزينة والزركشة، في حين تبنى الدعامات والأسوار الخارجية بإعتماد الحجارة، هذه التركيبة جعلت من القصر بناء صامدا أمام عوامل التعرية، تتحمل أبنيته شدة الأمطار، وتوفر الدفء شتاء، وتخفض من شدة الحر صيفا كما يسمح موقعه بتسرب نسيم الواحة العليل إلى فضاء القصر.
بين هذه المنازل ذات الأشكال المكعبة تتوزع بعض المرافق الحيوية، فنجد مسجدا يتوسط حي إدومليل وآخر يتوسط حي إدونكيت، أما الأول فكان في الأصل منزلا تبرعت به إحدى السيدات، والثاني كان أول مسجد بني بالقصر، وبالتالي يعد أقدم مسجد في غرب الصحراء على يد المصلح الديني عيسى ابن صالح المتوفى عام 500هـ/1107م وهو الجد الرابع للولي الصالح اعزى اهدى الذي تنسب له الكتابات التاريخية تأسيس زاوية آسا المتكئة على باب أهراريس خارج أسوار القصر، ولد الشيخ سنة 646هـ/1248م في قصر يعقوب المنصور بمراكش، ومنه تيسر طريقه إلى آسا كرجل دين وجهاد تعددت كراماته مما حذى بالعامة إلى تبجيله والالتفاف حول مشروعه الإصلاحي الذي وشك على إقامة دولة أو إمارة على الأقل إذا ما أخذنا بعين الإعتبار ملابسات وظروف وصوله، والأسس التي بادر بإرسائها في الميدانين الديني والعسكري، إلى أن وافته يد المنون سنة 746هـ/1346م ويعد “اعزى اهدى” الأب الروحي والجد الأسمى لقبائل آيت أوسى.
عرفت آسا التعمير منذ الأزل، كما عرفت استقرار المصلحين الدينين منذ أقدم العصور، لذلك تحتفظ الذاكرة المحلية بعدد 366 وليا ومصلحا دفنوا بأرض آسا، وتسجل بعض النصوص أن أول هؤلاء كان هو المصلح الديني محمد الشبكي الذي تحتفظ له الذاكرة بإسم آخر وهو سيدي محمد السبتي الذي قدم إلى المنطقة حوالي 130هـ، وخلوته ما تزال قائمة قرب مجرى عين تكردات، يحاذيها مسجد تقام فيه الصلوات الخمس.
من المعالم الهامة جدا داخل القصر “دار الندوة” التي تعقد فيها القبيلة اجتماعاتها، ويعقد فيه الوجهاء (انفلاس) مجلس “آيت اربعين” للبث في كل القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقضائية المتعلقة بالسكان والمجال، يترأس الجلسات شيخ القبيلة “أمغار” الذي يستعين في (تزميم) الأحكام وقرارات المجلس برجل دين، فيما يتولى (انفلاس) تنفيذ الأحكام، ولهم حق الاستعانة بالعساكر (العسة)، تحتفظ الذاكرة الشعبية بشخصية الشيخ “الحسين بن مبارك أحشوش” وما كان له من حظوة داخل القصر إذ كان ذا نفوذ وجاه ومال وعبيد كما كان ذا حنكة وفراسة استطاع تدبير شؤون القصر وتوفير الأمن والنظام فكانت فترة ولايته من ألمع فترات تاريخ قصر آسا، لكن وفاته تزامنت مع وصول الفرنسيين، فانهار حكم الأمغار بالمنطقة، وبدأ معه انهيار مؤسسة آيت اربعين خصوصا وأن الفرنسيين كانوا جد حريصين على تنصيب زعامات موالية لمشروعهم التوسعي
يزاول السكان إلى جانب الفلاحة مجموعة من الأنشطة والحرف التي تمث بصلة وثيقة الى إحتياجاتهم اليومية، وتتركز جل الورشات في حي الحرفيين المعروف محليا ب (درب ايمزيلن) ويشكل اليهود السواد الأعظم من هؤلاء الحرفيين رغم أن مرتبتهم كانت أقل بكثير من مرتبة العامة. لا يمتلك يهود آسا حيا (ملاح) خاصا بهم بل يسكنون جنبا الى جنب المسلمين، لا تحدثنا المصادر كثيرا عن حياة هؤلاء بل تكتفي بالإشارة الى تمسيح جزء كبير من اليهود من طرف المحليين بالإعتماد على كنيسة روما وبعض البعثات التبشيرية التي تفد على المنطقة من المحيط خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين مما يجعل السؤال التاريخي مشرعا حول الديانات التي تعاقب على اعتناقها سكان آسا الأقدمون.
عد الوزان الإفريقي سنة 1510م حوالي 400 منزلا بآسا، وكان من المفترض أن يتضاعف هذا العدد مرات تلو المرات، لكن ما حدث كان العكس إذ تناقص عدد السكان ليصير حوالي 100 منزل آهل بالسكان سنة 1948 حسب (فانسان مونتان) في إشارة صريحة لنزوح الآسويين عن المنطقة، ونرجح أن يكون لفرض نظام الحماية على المغرب ووصول الفرنسيين إلى آسا مسؤولية في ذلك.
يستجيب قصر آسا إلى مقومات بناء المدينة الإسلامية إلى حد كبير، كما لا يتنافى وطراز بناء القصور في واحات الجنوب، ولإقامة البينة يكفي التذكير بما سبقت الإشارة إليه من حيث موقع المسجد في قلب المدينة والحي، يقاس على ذلك توزيع الأنشطة الحرفية داخل القصر وجعل الورشات الضارة بالبيئة والإنسان خارج فضائه (أدرارن الطين نموذجا) وتوزيع الساحات والأماكن ذات النفع المشترك بالتوازي بالإضافة إلى حضور الهاجس الدفاعي في الهندسة والتشييد، كذا إعتماد الشورى من خلال مجلس آيت اربعين، وكانت الواحة المصدر الرئيس لعيش السكان لكنها اليوم تئن تحت وطأة التلوث والحرائق، وتعاني أشجارها من الشيخوخة ومن بعض الأمراض مثل مرض “البيوض”، أما قصر آسا فقد بات مسرحا لعمليات تأهيل صورية كانت مناسبة سانحة لنهب المال العام وضرب ذاكرتنا الجماعية عرض الحائط.