حبٌّ في زمن الكورونا
قصة قصيرة لـِ: سعيد زريبيع
انتظرها حتى تنزل ليحكم إقفال سيارته من الداخل، جلس متسمرا في مكانه، شاردا فيها وكأنه يراها لأول مرة.
مر شريط حياتهما مجتمعين أمام عينيه تلك اللحظة. في مخيلته تصورها ترقص ‘الباليه’ على موسيقى “بحيرة البجع” يوم زفت إليه، بالكاد تطأ أصابع قدميها الأرض لتعلو وتدنو، وبين قفزة وأخرى تحمل قلبه إلى عوالم بعيدة حيث يعود نبضه الطبيعي.
يرتفع إيقاع الموسيقى ويتسارع. ينظر إليها بشوق ويمد يده من بعيد. يصرخ ليلفت انتباهها، لكنها مستمرة في الدوران بتلك السرعة، دوران لولبي في الإتجاه الآخر، تبتعد رويدا رويدا عن المكان الذي بدا كلوحة ‘ليلة النجوم’ لـ”فان خوخ”.
بقوة ضرب مقود السيارة بقبضة يده اليمنى، علا منبهها مرتين، وقبل أن يضرب الثالثة، اجتاحته رغبة جديدة في الصراخ، فقبض على أصابعه، أطلقها، وبذات القوة قبض شعر رأسه وهو يتمتم بكلمات مبعثرة.
وجد نفسه محاصرا بواقعه، ذي هي أمامه غير مكترثة بما يجري حولها.
على حافة الرصيف، تقف بكبرياء وشموخ، لم تلتفت مذ نزلت. يلاعب النسيم خصلات شعرها التي ترفرف كـ’فراشة الرخام’ على “وردة السلام”. تعيد إحكام معطفها على قوامها الرشيق، وتعبر الطريق نحو الضفة المقابلة حيث الباب الرئيسي لمحكمة القضاء الأُسَرِي.
يمر الوقت بسرعة، فيترجل بدوره ويقف في مكانها ذاته. يتحسس الإسفلت في لحظة بحث عن عناق أرضي بين حذاء ذكوري وطيف “كعب عالي”.
يضيء البرق سماء المكان المتلبدة بالغيوم، فينزل المطر زخات زخات. يتسابق الناس من حوله في اتجاهات مختلفة بعد اشتداد القطرات التي بللت ثيابه كمن يتطهر من إثم عظيم.
عاد من جديد ليتذكر ما قاسته طيلة سنتين من حجر منزلي وعذاب نفسي. ذبلت بين عينيه ولا ساقٍ سواه.
طارت به الذكرى إلى ليالي الأنس، واستقرت به ليلة عاد إليها مخمورا محمولا.
فاقت درجة حرارة جسمه الأربعين، فاحتضنته كما لم يحتضنه حضن امرأة.
بكى بين يديها ونام.
والآن يبكي بشدة، في جو غلبت ملوحة الدموع فيه عذوبة المطر.
دخل المحكمة من ذات الباب الذي دخلته، يتتبع وقع أقدامها وكأن لم يفترق اثنان غيرهما.
جلس بجانبها ينتظران جلسة طلاقهما الثالثة والأخيرة.
بدا خائر القوى، مطأطئ الأنا. فيما واصلت شموخها في حياء.
استغرب القاضي صمته وتعجب لحاله، ليس ذاك المتعجرف الذي استقبله مرتين.
يا ترى ما الذي تغير بهذه السرعة؟
تخلص من عُقَدِه لحظتها، وأعلنها دون مركب نقص:
– أحبها سيدي القاضي
لم يحرك وقع الكلمة فيها شيئا، ولا صدق نطقه لها. طلبت وثيقة الطلاق، وقعتها وانصرفت.
سقط على ركبتيه ينتحب.
أ هذه هي التي احتوتني أسبوعين من المرض؟
أ هذه هي التي أصرت أن تشاركني الحجر في غرفة واحدة؟
ألم أقرأ في عينيها:
إن عشنا عشنا معا، وإن مُتنا تقاسمنا الكفن..
(تداركوا قبل فوات الأوان)