um6p
الحديث عن انهيار بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي أشبه بالكاميرا الخفية

الحديث عن انهيار بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي أشبه بالكاميرا الخفية

شطاري "خاص"29 يونيو 2016آخر تحديث : الأربعاء 29 يونيو 2016 - 5:16 مساءً

د.حسين مجدوبي:

التأمل في الخريطة الجيوسياسية العالمية تحمل مفاجأة كبيرة للكثيرين، وهي أن معظم الدول التي ظهرت خلال الثلاثة قرون الأخيرة جاءت بسبب المقص السياسي – الاستعماري البريطاني، حيث قامت لندن بترتيب خرائط العالم في شمال القارة الأمريكية والأفريقية والآسيوية. وهو أمر عادي للغاية بحكم شساعة الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، وبالتالي كانت تمنح الاستقلال وفق الحدود التي رسمتها.
والمقص التاريخي أو المقص الجيوسياسي الذي يتلاعب بالحدود ويصنع الدول هو هواية بريطانية بامتياز، ولهذا يذهب المؤرخون والمفكرون، ومنهم إريك هوبسباون إلى القول إن «الأمة هي تقليد للإيحاء بالخلود»، ولهذا الإيحاء الذي ليس واقعا حقيقيا لا يصمد أمام تقليد المقص السياسي البريطاني.

 
والطبقة السياسة في لندن مسكونة بهاجس المقص السياسي، فبعدما انتهى دورها في صياغة خرائط العالم، ولم تعد القوة الحاسمة في تطورات العالم بعدما ورثت الدور ابنتها الولايات المتحدة، يبدو أنها تستمر في هوايتها السياسية، ولكن هذه المرة في عقر دارها. وترتكز في رؤيتها على مبدأ «تقرير المصير» الذي يعتبره البريطانيون مقدسا وتنهار أمامه جميع الحدود.

 
وهكذا، فخلال سنتين، قامت لندن بإجراء استفتاءين، الأول وهو استفتاء اسكوتلندا يوم 18 سبتمبر 2014، وخسر القوميون، ولو كان قد ربحوا لكانت المملكة المتحدة في صيغة مختلفة نسبيا. لكنهم لم يعثروا بعد على وليام ولاس القرن الواحد والعشرين يستعمل الإنترنت بدل السيف ليقودهم نحو وضع ما قبل 1707، تاريخ الوحدة مع عرش إنكلترا. ويستمر البريطانيون في هوايتهم، ونظموا هذه المرة استفتاء البقاء من عدمه في الاتحاد الأوروبي، وانتهت النتيجة يوم 23 يونيو 2016 بـ»مغادرة الاتحاد الأوروبي».

 
ويحدث البريطانيون ما يفترض أنه «زلزال سياسي» في الاتحاد الأوروبي ومهددين خريطته السياسية، ولكن هذه المرة ليس عبر أسطولهم الحربي التاريخي، فهم لم يعبروا بحر المانش، كما فعلوا في مناسبات تاريخية سابقة ومنها خلال الحرب العالمية الأولى والثانية، بل فقط عبر مقترحات سياسية -فكرية تدعو الى استعادة استقلال بريطانيا عن بيروقراطية الاتحاد الأوروبي وبفضل صناديق الاقتراع.

 
ولا يحمل البطل هذه المرة اسم أرثور ويلسلي المعروف بـ»دوق ولينغتون» الذي انتصر على نابليون في معركة واترلو، المعركة التي غيرت ملامح أوروبا ووضعت حدا للإمبراطورية الفرنسية وسط القارة العجوز. كما لا يحمل اسم ونستون تشرشل الذي ساهم في القضاء على نازية أدولفو هتلر وأنهى الإمبراطورية النازية التي امتدت خلال سنوات من جنوب فرنسا الى السويد، بل هذه المرة «الفارس السياسي» هو سياسي عادي اسمه بوريس جونسون لا يشغل أي منصب سياسي رفيع في الوقت الراهن باستثناء أنه نائب برلماني.

 
وعمليا، أحدث بوريس جونسون بتزعمه بريكسيت «معالم زلزال»، نعم «معالم زلزال»، سياسي ومالي في الاتحاد الأوروبي، من خلال تراجع البورصات المالية وتراجع قيمة الجنيه البريطاني، أما في الشق السياسي، فقد ارتفعت أصوات تطالب باستفتاء مماثل على الأقل في دولة من حجم فرنسا تعتبر من أكبر المدافعين عن الوحدة الأوروبية رفقة المانيا. لكن الزلزال الحقيقي هو أن «بريكسيت» جعل عددا من السياسيين والمفكرين الأوروبيين، بل حتى جزءا من الرأي العام يطرح ضرورة تطوير الاتحاد الأوروبي نحو فضاء أكبر للشعوب، بدل فضاء للشركات العابرة للحدود وهياكل الدولة العميقة «إستبلشمنت» التي تلهث وراء مصالحها.

 
وسارع الكثير من المحللين الى وضع تنبؤات حول النفق المظلم الذي دخلته بريطانيا، تنبؤات تفوق تشاؤم المتكهن الأكبر نوسترداموس. تقارير تتحدث عن انهيار الوحدة الأوروبية، وأخرى عن انهيار كارثي للجنيه الإسترليني، وأخرى عن ارتفاع البطالة الى أرقام قياسية، بينما أخرى عن التراجع المرتقب لقوة بريطانيا. وأبدع بعض المحللين العرب في هذه التكهنات، مسقطين، وبدون وعي، الواقع العربي على الوحدة الأوروبية أساسا والغربية عموما.
نعم، أحدث بريكسيت «معالم زلزال» لكنها محدودة التأثير على ضوء التاريخ، كما هو الأمر مع أحداث تاريخية كبرى. عمليا، بريطانيا كانت وسط الاتحاد الأوروبي وخارجه في آن واحد، وهذا الغموض هو الذي جعل سياسيا من طينة الجنرال الفرنسي شارل ديغول يستعمل طيلة سنوات الفيتو ضد انضمام بريطانيا. فهي لم تنضم الى أكبر مشروعين للوحدة الأوروبية، العملة الموحدة «اليورو» وفضاء شينغن الخاص بحرية التنقل، بينما كانت تفرض تحفظات على القوانين الأخرى تحت يافطة «الاستثناء البريطاني».

 
في الوقت ذاته، يعتبر «بريكسيت» حادثا بسيطا للغاية في مسيرة بريطانيا وأوروبا والغرب عموما. فالبريكسيت لن يؤثر في هيمنة الغرب على العالم التي بدأت منذ النهضة الأوروبية وتستمر في الوقت الراهن، حيث لم يتأثر بالحروب العالمية والأوروبية خلال القرون الأخيرة. وفي الوقت ذاته، فقدان بريطانيا لمستعمراتها، وهو أكبر ما تعرض له هذا البلد، لم يجعل بريطانيا تتقهقر بل تستمر ضمن القوى العسكرية والاقتصادية الست الأولى عالميا.
بريطانيا قد تصبح دولة ضعيفة عندما ستتفتت رابطة الغرب سياسيا وعسكريا، أما الآن فكل المؤشرات تشير الى تماسك الغرب واستمرار هيمنته، خاصة بعد اتفاقية التجارة الحرة المرتقبة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التي ستكون الأضخم من نوعها في تاريخ البشرية.

 
بريطانيا قد تصبح دولة ضعيفة عندما ستفقد حق الفيتو في مجلس الأمن، هذا الفيتو الذي يمنحها قوة ويجعل الكثير من دول العالم ومنها العربية تخطب ودها. بريطانيا ستصبح دولة ضعيفة عندما تفقد جامعاتها مثل أكسفورد وكامبريدج الريادة عالميا، ويصبح تصنيفها ما بعد الخمسين وستعجز عن إنتاج علماء وباحثين من طينة نيوتن وكارل ماركس وستيفن هاوكين، بريطانيا ستصبح دولة ضعيفة عندما ستتراجع في المجال الصناعي والتكنولوجي الى ما بعد المركز العشرين عالميا وتتفوق عليها دول مثل البرازيل، ولن تعود تصنع الأسلحة بمختلف أنواعها البرية والبحرية والجوية ولا المحركات النووية. كما ستصبح دولة ضعيفة عندما يكف القادة العرب عن انتقادها وسبها نهارا والتآمر معها ليلا وتهريب أموال الشعوب العربية لبنوكها.

 
إذا لم تقع كل هذه الأشياء، فاعلموا أن الحديث عن تراجع بريطانيا بعد «البريكسيت» هو مجرد «كاميرا خفية» سياسية.

رابط مختصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

شطاري "خاص"