يقول المفكر الفرنسي إيمانويل تود (Emmanuel Todd): “يُخطئ المثقف هدفه الأساسي، إذا استكان إلى خطاب العامة، ووافق الجمهور في كل ما يذهب إليه صونا للإجماع الوطني”، قال ذلك تود في لحظة فاصلة من حياة فرنسا عندما تحول الإرهاب في حادثة “شارلي”، إلى حافز لإجماع وطني قسري مسيج بشمولية قاتلة تناقض المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية من حرية التعبير والرأي، فكان إيمانويل بذلك حالة فريدة، غردت خارج السرب وطرحت على فرنسا الشعبية والعالمة أسئلة عميقة تتعلق بالهوية وبالوعي السيوسيوثقافي والديني للمجتمع الفرنسي، وقد جاء ذلك مضمنا في كتابه المثير “من يكون شارلي؟ سوسيولوجيا الأزمة الدينية”.

قد يكون الإجماع الوطني مسألة حيوية ومهمة في تاريخ الشعوب، في لحظات فاصلة من مسيرتها، وبغض النظر عن الصور التي يحملها التاريخ عن نماذج الإجماع، فإن بعضا من صورها كانت خادعة ومنعت أصواتا من التعبير عن نفسها، وحرمت كثيرا من القضايا العادلة، من وجهات نظر، لو تم الاستماع إليها في حينها، لتغيرت كثير من صور التاريخ ومصير جماعات وأفراد. كما يحمل لنا الحديث عن الإجماع الوطني خلطا غير مبرر بين الإجماع على قضية، من حيث عدالتها ورمزيتها، وبين طرق تدبيرها.. مناسبة هذا القول هو ما تعرفه القضية الوطنية الأولى؛ قضية الصحراء من مستجدات، ومن تلويح حكومي بخيار الحرب، وهو تلويح لم نعهده من قبل، وهو ما يعني أن الوضعية في الصحراء دقيقة جدا، وكما هي العادة وعند كل أزمة فإنه يتم استنفار الجبهة الداخلية، صحيح أن ذلك لازال يتم بأساليب قديمة من الماضي تفتقد للإبداع، لكنه يعكس فعلا إجماعا وطنيا استثنائيا بحاجة فقط، إلى عدم قتل النفس النقدي بداخله، بشكل يعزز موقف بلادنا و يقوي حججها و يجعلها أكثر متانة وإقناعا، و بصفة خاصة حجج تساير التحولات التي يعرفها العالم، وتستطيع أن تتوقع أثرها أو ووقعها على الجهات التي نخاطبها…

هذا الكلام في جزء منه تعود أسبابه لما تداوله رواد الشبكات الاجتماعية من شريط فيديو قصير أظهر برلمانية مغربية محترمة في حزب كان له موقف خاص من الاستفتاء في الصحراء، يظهرها وهي تنطق تيفارتي وتقول بدلا عنها “نفرتيتي”، وذلك في تصريح للصحافة.. إن ذلك يعكس في جزء منه حجم الثمن الذي تقدمه النخبة السياسية والحزبية عندما ترتكن إلى مقولة أن ملف الصحراء بيد الدولة، وأن الأمر يقتضي إجماعا وطنيا… وأن الإجماع يعني دع الدولة تقوم بعملها، صحيح أن ملفا بهذا التعقيد وبأبعاده الاستراتيجية والمصيرية بالنسبة إلى بلادنا، لا يجب أن يكون موضوع مزايدات بين المؤسسات، وصحيح أنه ملف دقيق لا يمكن تأطيره سوى بإجماع وطني، لكن كل ذلك لا يعني تغييب النقاش بروح وطنية وتقديم الملاحظات وحتى الانتقادات التي تستهدف التحذير من مطبات أو انزلاقات، كما لا يعني ذلك مسا بعدالة قضيتنا الوطنية، أو تشكيكا في الأجهزة أو الأشخاص الذين يتولون تدبيرها، بل على العكس من ذلك فالنقاش والحوار يعززان اللحمة الوطنية التي تبقى في النهاية هي السند الحقيقي لمطالب بلادنا المشروعة، وليس الرهان على عواصم دولية مهما كان دعمها، فإنها تتعامل دائما مع الموضوع من منطلق الربح و الخسارة.

في السياق نفسه، فإن الدولة مطالبة بتقديم كل المعطيات والوثائق ذات الصلة بالنزاع المفتعل في الصحراء المغربية للأكاديميين والسياسيين والإعلاميين، حتى يستطيع الجميع أن يطلع على الحقيقة كما هي، وهذا يساعد على امتلاك وعي حقيقي بالقضية بعيدا عن العواطف والحماس الذي لا يفيد عندما يتعلق الأمر بالدبلوماسية الموازية والشعبية، والتي عندما تكون جاهلة بالتفاصيل، تصبح مثار سخرية عندما تصادف في الطرف الآخر أناس متمكنين جيدا من معطيات الملف، والأسوأ من كل ذلك، هو عندما يتوجه مسؤول برلماني أو حزبي أو نقابي أو حكومي لجهات خارجية، بخطاب يتأسس على العواطف والمشاعر أو يخلط مثلا بين تيفارتي و”نفرتيتي”…

في زمن التكنولوجيا والشبكات الاجتماعية، من العبث الرهان على إخفاء معلومة معينة، أو تقديم قراءة مجتزأة لتقرير أو بيان أو اتفاقية.. الوضع معقد جدا، يجب قول الحقيقة كما هي، وبها يجب أن نصارح المغاربة ويجب امتلاك الشجاعة والجرأة للاستماع للملاحظات والاقتراحات والأفكار التي على أساسها.. يتحقق المعنى للإجماع الوطني.