بتاريخ السادس من مايو 2016م كان تنظيم {داعش} الإجرامي يوجه ضربة في العاصمة المصرية القاهرة؛ فيقتل ثمانية من عناصر الأمن، أحدهم برتبة ضابط، بنفس التوقيت كانت لندن العاصمة البريطانية تحتفل بتتويج أول عمدة مسلم هو {صادق خان} من أصول آسيوية للعاصمة البريطانية لندن تحت يده ميزانية 14 مليار جنيه استرليني.
إنه يوم أسود في تاريخ مصر الحديثة، كما أنه تاريخ رائع للعاصمة البريطانية المسيحية التي تولي إدارة شئون دفتها لرجل مسلم ينطق الشهادتين.
بإمكاننا توجيه تحية للديموقراطية البريطانية مع ربيع عام 2016م، والبكاء على أطلال المجتمع وقيم الثورة الفرنسية {الإخاء المساواة الحرية}، كما وصفها فيكتور هوجو في روايته {أحدب نوتردام}.
ولكن ما الذي جعل الرجل صادق خان يتبوأ منصبه الجديد وماهي عناصر فوزه؟
استفتح الرجل خطبة توليه المنصب بكلمة {أنا خان} ليترك في الذاكرة بقية قصة الفيلم الهندي {أنا خان لست إرهابيا}.
الفيلم يروي قصة شاب هندي مسلم مصاب بالتوحد، يدخل الأراضي الأمريكية، وحين يسأله ضابط الحدود عن سبب رحلته لأمريكا؟ يجيب أريد مقابلة الرئيس الأمريكي؟ يضحك طاقم التفتيش الأمريكي من خطورة الكلمات ويشتبهوا في طبيعة المهمة التي جاء بها، وهم المصابون بالتوحد من نوع آخر في هوس كشف المتطرفين وحرب الإرهاب، ثم يبدأ التفتيش ليكتشفوا أنه رجل مصاب بالتوحد لا يعرف تماما كيف يقدم نفسه.
مرض التوحد {Autism} تخلع صاحبها من عالم الواقع إلى عالم داخلي مغلق محكم التوجه والكلام والتصرف، وهو تحدي كبير للأهل حين يفاجئوا بطفلهم مصاب بالتوحد، فهو مرض جديد يضرب بشدة، صعدت نسبة إصابته في أمريكا إلى 18 بالمائة، وفي كوريا الجنوبية إلى حواف ثلث الأطفال القادمين للعالم.
{صادق خان} ليس مصابا بالتوحد، بل يحمل عبقرية متوهجة، وجلد ودأب لا يعرفان النوم والاستقالة، ولكنه نجح من خلال حزب العمال البريطاني فصعد سلم السلطة، ولأنه ولد وتربى في بريطانيا من أب يعمل سائقا لباص؛ فهو حرق المراحل إلى أعلى عليين بفعل تفوقه، وليس لأنه من عناصر حزب البعث القائد، أو مقرب من الرفيق القائد، إلى آخر أمراض الديكتاتوريات، بل بفعل آلية صعود الفرد في السلم الاجتماعي بالكفاءة، والكفاءة بالدرجة الأولى.
الذي رفع {صادق خان} إلى سدة عمدة لندن، ليس لأنه يقوم الليل ويفتر بالنهار، ويصوم كل اثنين وخميس، ويحج ويزكي؛ فهذه قضايا وعبادات تخصه، ولا تخص تعقيدات العاصمة العريقة ومشاكلها الميدانية. ليس لأنه يؤمن بجهاد الكفار باللسان والسنان وحافظ لجزء عم يتساءلون؟ بل دخول الرجل في دين الملكة اليزابيث، وهو دين الكفاءة والمساواة والعدل والعمل والرحمة، وهو ما جاء به الأنبياء والمرسلين والمصلحين والفلاسفة أجمعين، ومنهم رسول الرحمة ص الذي ينتسب له الرجل، الذي لا يستبعد أن يقفز في المستقبل إلى منصب رئاسة الوزراء البريطاني، مثل توني بلير وتاتشر وكاميرون، حينها لن يحكم بالشريعة الإسلامية، بل بالعدل الذي جاء به الأنبياء والمرسلين، {ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ـ الحديد 25} وغاب عن وعي المسلمين المعاصرين، الذين أصيبوا بداء الأمم، من نشافة عقولهم؛ فأصبحوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدورهم، ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتشقق فيخرج منه الماء؟
وبالمناسبة فإن المرشح لعمدة برلين أيضا من أصول فلسطينية، يروي عن والده قولته حين هاجر إلى ألمانيا، أن قال لأولاده انسوا الشرق، وكونوا عناصر لائقة، وممثلين جيدين للأمة التي خرجتم من رحمها، وكونوا جديرين بالانتساب للمجتمع الألماني، وأول شيء علينا الإمساك به، وهو مفتاح المفاتيح، التمكن من ناصية البيان، فلم يرسل رسول لقومه إلا بلسانهم ليبين لهم.
الدول القوية لا يهمها عقيدة المواطن، وبأي دين يدين، وفي أي معبد يصلي ويركع، وإلى أي قبلة يولي وجهه ويخشع، بل وبقوتها الساحقة الماحقة، تطحن الأفراد الذين يدخلون أحشاء ماكينتها الجبارة؛ فتستخدمهم في وظيفتها الحضارية، على شكل قطع غيار حيث تحتاج؛ عمدة عاصمة، أو طبيب إسعاف وجراحة، أو عامل سكة حديد، أو موظف هجرة وضابط حدود وجامع أزبال؛ كما في حسن من مدينة {أحفير} من الريف المغربي الذي اجتمعت به في باريس فكان يجمع الأزبال ويعتلي صهوة سيارة مرسيدس، بعد أن هرب في بطن شاحنة من شمال المغرب وكاد أن يختنق في رحلة الهرب من أرض الجوع والضياع إلى أرض الميعاد والعسل والحليب.
هكذا رأيت أنا شخصيا حين انتقلت إلى ألمانيا للتخصص؛ بعد أن هربت من ديار البعث إلى يوم البعث؛ فوضعوني في المكان الذي يحتاجون، وكان الشرط الأول لتحصيل الوظيفة والرزق، التمكن من اللغة الألمانية نطقا وكتابة كما كانوا ينشرون هذه العبارة في المجلة الطبيبة الألمانية حيث صفحات الإعلانات{Beherschung der deutschen Sprache im Wort und Schrift}، وهو ما يذكرني بمأساة دول الخليج، مقلوبا منكوسا، أن الشرط الأول للعمل هو التخلي عن لغة الضاد، كما جاءني التوجيه من مدير المشفى، حين كنت أعمل يوما في عسير تحت أمرة طبيب نيجيري عنفني وزعق مثل غوريلا في الكونجو برازفيل، لأنني كتبت باللغة العربية على ملف المريض؛ مما يجعل المتنبي والبحتري يبكيان في قبرهما.
وكل هذه هي مؤشرات الانحطاط كما يذكر ابن خلدون ذلك في مقدمته، أن المغلوب مولع بالغالب في لغته وشعاره وزيه وسائر عوائده. و{صادق خان} تربى في بريطانيا العظمى فلم يعد باكستانيا يرطن بالأوردو، ولا بنجالي يقعقع بلغة حسينة، ولا هندي يحاول النطق بين سبع لغات،؛ فأصبح خلية في هذا الجسم الحيوي، ولم يعد فيه ما يذكر بأصوله التي خرج منها، إلا بقايا من جينات تطبعت بطبعة ريتشارد قلب الأسد.
وهذا يحكي مأساة موت الأمم والمجتمعات، التي تتحول إلى مواد أولية، تأكلها مجتمعات قوية حية، كما نأكل نحن الخزو والمطيشة ـ بتعبير المغاربة ـ فتتحول إلى مواد بناء داخل الجسد الحي، والقرآن تحدث عن موتتين الفرد والمجتمع، فنحن نودع الكثير ممن نعرف إلى دار الفناء، ولكن موت المجتمعات هذا نراه الآن في هذه الصورة المحكية من قصة خان وعبدان وإيران وجنكيزخان والعربان.
أذكر من المؤرخ البريطاني توينبي كيف تحدث عن قوة الإمبراطورية العثمانية، وأنها لم يكن يضيرها أن تضع في منصب الصدر الأعظم ـ وهو أعلى وظيفة في الدولة ـ يوناني أو صربي أو كرواتي، ولم يجد {سليمان القانوني} حرجا أن ينجب من الروسية {روكسالينا} خلفاء للدولة مثل سليم الثاني.
يقول توينبي على لسان سفير دولة آل هابسبورج عبارة: حسدت العثمانيين فهم يعتنون بالإنسان فيرقون ملكاته فيصل إلى أعلى رتبة، أما نحن فنعتني بالباشق والنسر والحصان.