شطاري- فؤاد زويريق:
تُشكل قضية الصحراء المغربية تحديا صعبا، ورهانا استراتيجيا داخل المطبخ السينمائي المغربي باعتبارها قضية حساسة يصعب اختراقها إبداعيا بشكل أكثر احترافية ونضجا، والتطرق إليها بأريحية وسلاسة كباقي القضايا؛ لكن رغم ذلك فنقاشات وتساؤلات عديدة تُطرح من حين إلى آخر حول كيفية استقطابها بقوة داخل المجال السمعي البصري حتى يسهل التعريف بها داخل البلاد وخارجها.
صحيح أننا حققنا خطوة صغيرة في هذا الاتجاه، على الأقل من ناحية الدعم والاهتمام؛ فبعدما كانت مهمشة سينمائيا، تحركت الدولة وخصصت لها دعما ماديا، ليبقى رغم محدوديته مُهما باعتباره خطوة أولى نحو التغيير. كما أنها جعلت من تظاهراتها ومهرجاناتها السينمائية منصة للاحتفاء بالأعمال المهتمة بها.
لكن تبقى النقطة الجديرة بالاهتمام والنقاش هي ما نلاحظه اليوم من تناسل وتكاثر الأعمال التي اتخذت من هذه القضية مواضيعها، وهذا شيء مهم ومفرح لا شك في ذلك؛ لكن يبقى الخوف من تحول هذا التكاثر إلى موجة أو إلى ظاهرة دون وجهة وأهداف محددة، كما حدث سابقا للأفلام التي تناولت واستهلكت بعض القضايا والمواضيع المهمة، كقضايا المرأة وسنوات الرصاص مثلا.
وفي هذا السياق، يحق لنا كمتتبعين طرح بعض الأسئلة التي تتبادر إلى أذهاننا، وهي: هل قامت الجهات الوصية بدراسات مسبقة ووضعت خُططا لاحتواء وتنظيم هذا المحور حتى لا يزيغ عن أهدافه؟ فأمام الكثير من المغريات قد يتحول وفي غفلة من الكل إلى حقل تجارب فوضوي وعشوائي تتحكم فيه العلاقات والمصالح الشخصية الضيقة. هل سنهتم بالكم على حساب الكيف حتى نحقق الانتشار المطلوب ؟ ما هي الإضافة التي ستحققها هذه الأفلام؟ وما هو تأثيرها على القضية دوليا؟…
شخصيا ومن خلال تتبعي واهتمامي بالسينما في بلادي، لاحظت أن معظم الأعمال التي اهتمت بقضية الصحراء انبثقت من عدم ثم اختفت دون أن تترك وراءها أي أثر أو إضافة تذكر، لأسباب عديدة؛ منها: التركيز على الصحراء نفسها كديكور فقط وتناولها برؤية استشراقية بسيطة وساذجة بعيدا عن عمق وتفاصيل القضية الأم، وهناك أيضا الضعف الإبداعي والفني لدى صناعها وعدم إلمامهم بشكل علمي وأكاديمي معمق بالحثيات التاريخية والثقافية والجيوسياسية للقضية، وغياب ورشات مؤطرة لهذا النوع من الأعمال خصوصا أنه ما زال فتيا في سينمانا، وغياب استراتيجية مدروسة يكتمل معها المشروع مستقبلا، والتسابق نحو الدعم في غياب الوازع الوطني لدى البعض… وغيرها من الأسباب التي جعلت الكثير من هذه الأعمال مجرد محاولات لا قيمة لها فنيا وسياسيا.
وحتى لا أكون عدميا، علي الاعتراف -كما قلت سابقا- بأن الدولة قامت بخطوة إلى الأمام، خطوة علينا استغلالها أحسن استغلال، لكن في إطار مدروس وممنهج.. كما علي الاعتراف أيضا بأن بعض التجارب رغم قلتها حققت نسبيا بعضا من تطلعاتنا، تلك التي نتمنى أن تتطور مستقبلا حتى نحصل على أعمال ناضجة قادرة على الترويج لقضيتنا دوليا؛ فالأهم التوجه بأعمالنا خارجيا وليس داخليا، فجبهتنا الداخلية محصنة والمغاربة لا يحتاجون إلى أفلام دعائية تذكرهم بمغربية الصحراء، فهم يدركون تماما أن (المغرب سيظل في صحرائه والصحراء في مغربها) فما نحتاجه اليوم هو بروباغندا ذكية موجهة نحو الخارج حتى نغير مفاهيم كثيرين ونقنعهم بعدالة قضيتنا.. وهذا يلزمه الكثير من العمل والمال وتكاثف الجهود بين الجهات الوصية وصناع السينما، فقضية الصحراء كما قال صاحب الجلالة في خطاب له هي (قضية وجود وليست مسألة حدود).. وبما أنها كذلك، فعلى الدولة أن تضع كل إمكانياتها المادية واللوجيستيكية والإعلامية خدمة لهذه القضية سينمائيا، وجعلها من اهتماماتها الضرورية؛ لأن السينما في وقتنا الحالي -كما كتبت في مقال سابق نشر هنا في موقع هسبريس- هي سلاح فتاك بيدي صاحبها، ليس بالضرورة أن يكون هذا الصاحب مؤسسة أو دولة أو شخصا عاديا حتى، وليس بالضرورة أيضا ان يكون ظالما أو مظلوما، صادقا أو كاذبا، بل يكفي أن يكون متمكنا من خيوط اللعبة، حتى يؤثر في المُتلقي، بل في العالم أجمع.
وهذا ما نجد جبهة البوليساريو تقوم به، فقد أدركت اللعبة وسخرت كل إمكانياتها وعلاقاتها لتنجز أفلاما دعائية، وتستقطب ممثلين عالميين، وتتواصل مع جمعيات ومؤسسات دولية للترويج لأطروحتها أمام المجتمع الدولي.. إذن، نحن أمام ”حرب سينمائية” علينا أن نتجند لها بكل قوة وحزم ونستنفر معها كل قوتنا الناعمة للظفر بها.
ورغم كل العراقيل والتحديات التي تواجه إنتاج أفلام جيدة تهتم بقضية الصحراء سواء روائية كانت أو وثائقية، فإننا نصادف من حين إلى آخر محاولات رغم بساطتها تبقى اجتهادات تحطم السائد، وبالتالي تحتاج منا إلى كل دعم وتشجيع لما يقوم به أصحابها من مجهود واجتهاد واضحين.
شاهدت، مؤخرا، فيلما وثائقيا مغربيا جديدا معنونا بـ”سنوات العتمة”، الفيلم يتناول قضية الصحراء، لكن بمنظور آخر، منظور يسلط الضوء على رأي الجهة المقابلة، أي رأي عناصر من البوليساريو أنفسهم، أولئك الذين فروا الى المغرب بعدما اكتشفوا زيف وادعاءات هذه الجماعة وخدعتها بتأسيس جمهورية مستقلة مزعومة، فروا إلى المغرب بعدما ذاقوا الويلات وعذبوا في السجون.
يبتدئ الفيلم بلقطة ضبابية مبهمة لمجموعة من الأشخاص يضربون بالعصي شيئا ما لا نتبين ماهيته، لينتهي باللقطة ذاتها؛ لكنها هذه المرة بمعالم واضحة، حيث نكتشف أننا أمام برميل حديدي حُشر في قاعه معتقل من المعتقلين، وجلادوه يضربون جوانب البرميل بعنف تحت صرخاته الشديدة، هي فكرة ذكية تحسب لأصحاب العمل، والمغزى منها يكمن في عكس ضبابية الرؤية التي قد يشعر بها الجمهور في البداية، لتتضح له في النهاية، أي بعد وقوفه على كل تلك الحقائق والوقائع التي سُردت، وما بين بداية الفيلم ونهايته تتعاقب المشاهد واللقطات لأشخاص يدلون بشهاداتهم وقصصهم أمام الكاميرا، حيث يتبين لنا فيما بعد أنهم أشخاص هربوا من مخيمات البوليساريو إلى المغرب.
لم يقتصر الفيلم على الشهادات الشفهية فقط، بل حولها إلى مشاهد تمثيلية عكست بشكل ملموس مدى مأساويتها وخطورتها. ومن هنا، نكتشف أننا أمام “دوكودراما”، أو ما يصطلح عليه عربيا بالدراما الوثائقية، أي تلك الأفلام التي تجمع بين الوثائقي والدرامي، بمشاهد تمثيلية مستقاة من أحداث ووقائع حدثت بالفعل، وقائع جمعت آلام مجموعة من الأشخاص عاشوا كوابيس داخل سجون جماعة اعتقدوا أنها ملاذهم، وأنها البديل عن وطنهم الأم، فاصطدموا بواقع مأساوي متعفن، ليعودوا أدراجهم، أو بالأحرى ليهربوا إلى وطنهم ويحكوا مرارة تجربتهم.. هنا، تكمن قوة الفيلم في شهادات هذه العناصر وما يحملونه من حكايا القهر والتعذيب تُفند ادعاءات البوليساريو.
لم يتناول هذا العمل الوثائقي قضية الصحراء المغربية من منطلق سياسي، ولم يتعمق في حثيات النزاع؛ بل أسرنا داخل سجن مأساوي غارق في الآلام، حيث بنى رؤيته على منظور إنساني محض بتناوله لقصص تعذيب واضطهاد مجموعة من عناصر جبهة البوليساريو والملتحقين بها في سجون مخيماتها.
لذا، يمكننا اعتباره بمثابة وثيقة بصرية تدين بشدة الجبهة وتفضح انتهاكاتها وممارساتها داخل السجون، في تعد صارخ وخطير على كل أنواع القوانين والمواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، حيث حاول صُناعه بما لديهم من إمكانيات توصيل هذه الرسالة على لسان معتقلين سابقين كشهادات حية ممزوجة بمشاهد تمثيلية أريد منها شحن المتلقي عاطفيا بوضعه داخل سياق الأحداث؛ لكن للأسف تم تكثيف مشاهد التعذيب بشكل مبالغ فيه، إذ استقرت معظمها داخل قالب نمطي دون رؤية إبداعية أكثر بلاغة وقدرة على توصيل الرسالة، تلك التي تحول دون الظهور بمظهر المتسول الذي يستجدي تعاطف الجمهور بأسلوب كلاسيكي متجاوز. كما أن بعض لقطات جلادي البوليساريو في السجون، صورت بأسلوب كاريكاتوري متجاوز، فما معنى أن تصور الجلاد/الشرير يتلذذ بتعذيب السجناء وهو يضحك أو يقهقه بقهقهات متقطعة مزيفة؟ مثل هذه الكليشيهات تجاوزتها السينما من زمان وأضحت من الماضي، ولا مبرر لها في الفيلم الروائي فما بالك بالوثائقي، شحن عواطف المُشاهد والتأثير على مشاعره لا تتم سوى بأسلوب إبداعي مبتكر راق، خصوصا أننا أمام حقائق وأدلة واضحة لا تحتاج منا إلى المبالغة والاجتهاد في ابتذالها كاريكاتوريا، وإلا فإن رد فعل المتلقي سيكون عكس ما نتوخاه.
في المقابل وبعيدا عما ذكرته من عيوب، نجد أن صُناع الفيلم توفقوا كثيرا من الناحية التقنية وخصوصا في المونتاج، حيث نجحوا في تقطيع اللقطات المتقابلة بين الحكي والتمثيل، لنجد أنفسنا كجمهور في عمق الإثارة المشهدية وطيفها الدلالي المبني على مأساة معتقلي البوليساريو، فأضحينا بين مد وجزر يتلاعب بمخيلتنا، فالفيلم لم يترك لمخيلتنا الفرصة في تخيل الأحداث المحكية، إذ في وسط كل حكي نجد أنفسنا فجأة داخل الحدث من خلال المشاهد التمثيلية. كما أن مسرحة الأحداث فوق الركح وتشخيص كل شهادة على حدة أمام عيني صاحبها أخرجت الفيلم من قوقعة الملل وأعطته روحا جديدة مبتكرة قد لا تكون معروفة لدى أغلب الجمهور، وهي فكرة ذكية رغم إيقاظها للآلام الكامنة داخل شخوص الفيلم، فوضعهم أمام ماضيهم الأليم يجعل المُشاهد في نقطة تماس إنسانية مع أصحاب الشهادات.
يمكنني اعتبار فيلم ”سنوات العتمة”، بما يحمله من شهادات وحقائق واقعية مؤلمة، تجربة إنسانية مهمة تنضاف إلى تجربة أخرى سبقتها وهي الفيلم الوثائقي “تندوف، قصة مكلومين” لمخرجه ربيع الجوهري، فكأن تلك تُكمل هذه، إذ إن شهود الفيلم الأول هم من عناصر جبهة البوليساريو نفسها ومن الملتحقين بها، اعتقلوا وعذبوا في سجونها بينما شهود الفيلم الثاني، أي فيلم ربيع الجوهري، أغلبهم من المدنيين المغاربة اختطفوا واعتقلوا في المخيمات وكانوا شهودا بدورهم على المماراسات والمآسي التي عاشوها هناك، وكلا الفيلمين هما وثيقة بالصوت والصورة تدين الجبهة ومن يدور في فلكها، وعلى الجهات المعنية في المغرب أن تستغلهما وتجعل منهما قاعدة لإنتاج وتطوير أفلام أخرى بمعايير فنية أكثر احترافية ونضجا تحارب بها الآلة الدعائية للانفصاليين دوليا.
يبقى أن أشير إلى أن فيلم ”سنوات العتمة” من إخراج حكيم قبابي، وفكرة وإنتاج خالد دامي وهو مدعم من المركز السينمائي المغربي.