د.بوزيد الغلى:
لست أخفي سر انشدادي لإعادة قراءة رواية “أوزيوالت” التي فازت بجائزة إتحاد كتاب المغرب كرة ثانية تلَت التماس الأول مع النص ذات صائفة فائتة ؛ إنه نص تشممت فيه رائحة الألفة و الحنين التي تبعثها بعض الأمكنة ، ولقد وجدت في كتاب “جماليات المكان” لغاستون باشلار مفاتيح للولوج إلى مكامن جمالية المكان الذي تشتق منه الرواية عنوانها “أوزيوالت” . و لست معنيا ، في هذا المقام، بتفكيك دلالة الاسم التي قد تكون غميسة في أعماق ذاكرة أمكنة الصحراء الأطلسية التي تجمع بين لطافة البحر و كثافة الكثبان، ولكنني أكتفي بالقول …..
لقد أسهمت الإضاءة النيرة التي صدر بها غالب هلسا ترجمته الأنيقة لكتاب باشلار المذكور في تشجيعي على إتمام هذا السِّفر القيم الذي جمع فأوفى جماليات المكان ما تستحقه من استثارة أسرارها ، فآليت على نفسي أن أتوكأ على عصا المنهج الذوقي كي أصل بالمتلقي إلى استكناه بعض المخبوء تحت سطح كلام السارد ،في أوزيوالت ،الذي طالعنا بإثارة عجاج الصحراء و ريحها الحمراء في الصفحات الأولى:
“بدأت الأمطار تتهاطل بعد هبوب عاصفة رملية لم تشهد المنطقة مثيلا منذ سنوات ، أسماها آنذاك الشيوخ ” الريح الحمرا” التي زرعت الرعب في صفوف الأطفال و النساء” .
الصحراء بوجهها الغاضب المكفهر في هذا المقطع ، تجعلنا نشعر برعشة ، “ليست رعشة الخوف الإنساني ، بل الخوف الإنساني- الكوني ، الذي يحمل أصداء تلك الأسطورة الكبرى التي تحكي عن الإنسان الملقى في وضع بدائي” ، قد يشبه ، من حيث الإرعاب و القتامة، الوضع الذي حفز الناص على تصوير ” مدينة بوجدور الصغيرة في وسط الصحراء كعجوز (شمطاء) تحاول إخفاء شيب شعرها بالحناء “. و المكان ، هنا، مهما كان التأثير العاطفي الذي يلونه حزينا أو مضجرا ، فمادام قد تم التعبير عنه شعريا (الصورة الشعرية )، فإن الحزن يتناقص ، ويخف الضجر” . ذاك الضجر الذي لا تثيره صورة “المدينة/بوجدور” كعجوز تداري شيبها بالحناء ، و إنما تعمق الشعور به صورة ” الريح الحمرا” في المجال التداولي الحساني ، حيث تقترن بالهلاك و اختفاء الأثر (يقال على سبيل الدعاء بالهلاك : الله يخبط الريح الحمرا على أثرك.
إن قساوة صورة العاصفة و الريح الحمراء لا تلبث إلا قليلا حتى تلين بفعل ماء السماء (تتهاطل الأمطار) ، و في هذا المقام أيضا ، يلفت انتباهنا باشلار إلى “دراما حقيقية للخيال المادي تتولد من الصراع بين رمل الصحراء الجاف ، و الماء المطمئن لكتلته دون مهادنة مع الطين أو اللزوجة “.
ينطفئ صراع الماء و رمل العاصفة كما ينطفئ جمر الرعب ، الرعشة ، عندما تستسلم الطبيعة للهدوء ، فيتسابق ” الشيوخ /كبار السن إلى ” تقديم صدقات من السكر إلى الفقراء من أهل المدينة … قربان شكر لله تعالى الذي يبعد عنهم البأس” ، و برهان وجود معتقدات هاجعة في ثقافتنا الشعبية متعددة الينابيع السحيقة. و ليست المدينة في هذا السياق ، سوى جزء من المكان الخارجي حسب تصنيف باشلار ، أما المكان ” الأليف ، فهو أوزيوالت التي تذكر السارد بأحلام الطفولة ، و ذكريات الأجداد . ولهذا السبب ، سنعمد إلى:
أزيوالت مهجع أحلام الطفولة و حكايات الحب الشفيف :
في أزيوالت ، يشرد ذهن الراوي ، خطري ، يتذكر محكيات جده عن نجاته و أمه ميمونة من العاصفة ، يحلم أحلام يقظة بصور كثيرة تحملها محكيات جده ، و إذا سلمنا بأن ” جانب النفس اللاشعوري يظهر في الأحلام ، كما يظهر في الآثار الأدبية ..فغاية النقد النفسي ، على رأي مورون ، هو قراءة الأثر الأدبي قراءة تتجاوز سطحه الظاهري ، لزيادة معرفتنا به ، و اكتشاف أحد أبعاده الجوهرية دون أن نجني على أبعاده و دلالته “. وذاك ما سنحاوله راغبين في استكشاف جماليات المكان من خلال سبر الأبعاد الجوهرية لطائفة من “التنصيصات”:
قال الراوي :” لا تزال كلمات الجد محمود متسمرة في مخيلتي ، وهو يحكي لي قصة ” الريح الحمرا” ، و العلاقة الحميمة التي ربطتني بوالدتي ” ميمونة ” ، منذ أن كنت نطفة في أحشائها ، كانت أكثر من مجرد أم ..هكذا كان يقول ، و هكذا كنت أتبين يوما بعد آخر ..فقد كانت أختا و صديقة ..رفيقة و حبيبة”.
تثوي في هذا المقطع ” الملامح الأمومية للبيت” ، لا أعني البيت المبني بالحديد و الحجر أو الطوب ، وإنما أعني المكان الذي احتضن ميمونة /الأم التي غذت بدفء حنانها الراوي ، وهو نطفة في أحشائها . إنه بيت الأحلام الذي يبرر وجود هذه الصورة الشعرية التي تذكر في السياق الثقافي الحساني بصورة الحب ” الغارق في عالم المثل ” الذي يفترض قيام علاقة الحب في الغيب قبل الولادة :
من مريم ماكني تلياع *** من مزلت صغير فلحوالَولا سابكّ لحوالة كّاع *** نطفـة فظهـورت الرجالَ
ليس سرا أن استثارة مشاعر حب الأم قد أثارها في نفس السارد جمال أوزيوالت التي لم تكن تمثل للجد ” مجرد منطقة للاستجمام فقط” ، بل تجسد مهجع الذكريات الجميلة التي تتصدرها ذكرى اللقاء الأول الذي يرد هنا خطابا غير مباشر :
” كانت أوزيوالت شاهدة على أول لقاء بينهما بين كثبان الرمل الذهبية المنتشرة على طول الشاطئ كانت جدتي فارهة الجمال ، هكذا يصفها (جدي) ، طويلة القامة ، سلسة الشعر ، يقعد في عينيها إبليس، وهو توصيف باللهجة الحسانية، يعني الإثارة والإعجاب”.
يتوازى في النص جمال الجد مع جمالية المكان الفتّان (رمال ذهبية ترصع الشاطئ) ، فتكتمل الغواية التي يستل الراوي من الثقافة الشعبية الحسانية صورة شعرية لصيقة بها تربطها بإبليس (عينان يقعد فيها إبليس مترصدا).
أوزيوالت : عذرية الطبيعة و عنفها الناعم
تتربع مشاهد جمال “أوزيوالت” على سويداء قلب الراوي الذي ينقل استمتاع الصحراويين بالعيش فيها ، ” يضحكون و يمرحون و يرقصون …، يتذوقون متعة الطبيعة و راحة النفس بين جبال شاهقات مكسوة بخضرة النباتات الصحراوية و كثبان رمال صفراء فاقع لونها ، و هدوء يملأ المكان إلا من صوت البحر ، و كأنها تذكرهم بشموخ و كبرياء الحياة التي لا يمكن أن تخضع لأي مخلوق”.
ترتسم في هذا التنصيص معالم ” الفردوس المادي ” أو ” الجنة الأرضية ” بتعبير باشلار . تلك الجنة التي تجعل الفرد يشعر بالاسترخاء و الدفء. و في ظل ذلك الشعور المريح ، يصير عنف ” أوزيوالت” الذي تجسده أشلاء سفينة ” ربما ضلت مسارها في أحد الأزمنة الغابرة” ، عنفا ناعما ؛ مادام المشهد يثير في النفس بهجة رؤيتها عند الغروب أشبه ب “تايتانيك” في عيون العشاق من حولها”.
و لا شك أن عذرية الطبيعة و جمال غروب الشمس على صفحة الماء الذي يعلوه حطام سفينة غارقة ، يجعلان من “أوزيوالت” الملاذ الآمن هربا من القيود التي ” تفرضها المدنية و العمران اللذان حلا ثقيلين على حين غرة ، ودون سابق استئذان”.
إنها المكان الذي تستفيق فيه الرغبات الكامنة ، إذ اجتاحت الراوي (خطري) رغبة ملتبسة ، أفاقتها من سباتها و كمونها ” اعزيزة” التي لم تفارق مخيلته صورتها ، فحدث نفسه :”تجتاحني رغبة في كتابتها بخط عريض أسود على عذرية صفحاتي البيضاء ، لم أكن أعرف غيرها معرفة عاشق “. و بهذه الرغبة تلتحم صورة خدش عذرية الطبيعة بالمعمار الحديث بصورة هدر عذرية مشاعر الراوي باكتشافه معنى “الحب الذي يتحدثون عنه” دائما.
أوزيوالت : المكان الأليف
تمثل أزيوالت المكان الأليف حسب تعبير باشلار ، إنها المكان الذي يثير الأحلام و يغذيها.
بدا الجو كعروس حسناء تطل من خدرها على مجمع الرجال ، ملتحفة سوادا يشع منه نور جمالها، فيخيم الهدوء على المكان ، و يخيم السكون على الصباح إلا من ثغاء الماعز و مأمأة خرفان… يوم جديد يمحو سواد البارحة ، كما كنا نمحو ألواحنا الخشبية من سطور الآيات القرآنية في لمسيد/الكتاب….محا الليل سبورة النهار إذن ، و الاشطر من ينبته أكثر للكلمات قبل محوها …كل يوم هنا مغاير لسابقه …إنها أوزيوالت”.
تتألق أوزيوالت في وعي الراوي مكاناً أليفا و مستودع أسرار و ذكريات ، إنها بتعبير باشلار مكان ” العزلة … بيت للأحلام … بيت ذاكرة الحلم …، (حيث) نتوق إلى العيش بعيدا عن البيوت المزدحمة، و عن هموم المدينة . نهرب بالخيال لنعثر على مأوى حقيقي”.
خاتمة :
تلك بعض تجليات جماليات المكان في رواية “أوزيوالت” التي يتعرف من خلالها القارئ العربي على قطعة حسناء من أرض الواسعة ، تلتقي عندها الصحراء بالبحر . مشهد يسر الناظرين و السياح الذين اختار منهم الناص أسرة إسبانية استيقظت فيها مشاعر النجدة الإنسانية ، فتولت إنقاذ غريق من الصحراء ، و أشرفت على نقله في رحلة استشفائية لأجل عيني محبوبته “لوليثا “.