توفيق رباحي:
المسيرات الاحتجاجية التي تشهدها منطقة القبائل عادة في الثاني عشر من كانون الثاني (يناير) كل سنة، اختلفت هذه المرة عن السنوات الماضية. الفرق في 2018 أنها تزامنت مع الإدراج الرسمي لهذا التاريخ في سجل احتفالات الجزائريين، فأصبح هذا اليوم عيداً وطنيا وعطلة رسمية.
جرت مسيرات رأس السنة الأمازيغية، المسماة «ينّاير»، هذه المرة، ومنظموها والمشاركون فيها مجردون من ورقة غضب وضغط، بسبب تبني الحكومة مطلبا هاما من مطالب مسيرات السنوات الماضية. في الماضي القريب كان الغضب الأمازيغي يُبَّرر بقلة اهتمام الدولة، بل رفضها، لمطالب الأمازيغ، وبينها اعتبار رأس السنة عيداً وطنيا. هذه السنة، تظاهر الأمازيغ وقد استجابت السلطة لمطلب هام من مطالبهم.
ينسحب هذا الكلام أكثر على التنظيم المسمى «حركة استقلال القبائل» التي يقودها من الخارج، المغني السابق فرحات مهنِّي. فهذه الحركة هي الأكثر تطرفا وجرأة في مطالبها، وتجرؤ على المجاهرة بما يخشى آخرون التعبير عنه بصوت مرفوع.
هذه السنة، نهاية الأسبوع الماضي، نظم مئات من أنصار الحركة، كعادتهم، مسيرة في وسط مدينة تيزي وزو (100 كلم شرق العاصمة) معقل الأمازيغ. بدأت المسيرة وانتهت من دون عنف أو تخريب أو مواجهات مع رجال الشرطة، وفق صحافيين تابعوها في الميدان.
قد يكون السبب أن إحدى أوراق الغضب سُحبت من المحتجين، كما ورد أعلاه، فامتُص غضبهم قبل أن ينزلوا إلى الشارع. لكن هناك درسا آخر مهم يجب الخروج به من «سلمية» مظاهرة تيزي وز، وهو أن العنف يولّد العنف: عندما لم تمنع الإدارة المحلية، بتوجيه من الإدارة المركزية في العاصمة، مسيرة «حركة استقلال القبائل» كما اعتادت أن تفعل بحجج بعضها واهٍ وبعضها فيه وجاهة، وعندما تركتها تأخذ مسارها الطبيعي من دون استفزاز أو تحرش أمني، سحبت من أيدي المنظمين والمشاركين ورقة/سببا للغضب والتصرف العنيف.
مهم التنويه إلى أن السلطات المحلية، (مرة أخرى بتوجيه من السلطات المركزية)، لم تتصرف مع حركة فرحات مهنِّي ـ أو غيرها في المنطقة ـ بذلك الاتزان والهدوء، من إيمانها بالديمقراطية وحق الناس في التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي. فسكان مناطق أخرى لا يُقابَلون بالطيبة نفسها التي قابلت بها الشرطة متظاهري تيزي وزو. لقد فعلت تحت ضغط عاملَيْن رئيسيَيْن، أولهما حساسية المنطقة وثانيهما حساسية الموضوع.
المنطقة شديدة الحساسية وجاهزة للفلتان مع تنامي الأصوات الأمازيغية، بمعتدليها ومتطرفيها، المحتجة على السلطة، ومع تراكم المطالب منذ عقود، ومناورة النظام الحاكم ربحا للوقت وسعيا لإطفاء الحرائق لا لمنع حدوثها. أما الموضوع الأمازيغي فغدا أكثر حساسية مع إدراك الجزائريين عامة والأمازيغ خاصة أن لا همَّ للسلطة سوى ربح الوقت والتملص من الوعود.
كما يجعل تزايد الأزمات الإقليمية والدولية، الموضوع الأمازيغي أكثر حساسية وخطورة في يد سلطة متهورة أو حمقاء، وقد يقود نحو مزيد من التشدد والعناد. وفي هذه الظروف العصيبة المتميزة بانتشار البطالة وتراجع القدرة الشرائية للناس وتزايد الفقر وغياب الأمل في المجتمع ككل، لا تمتلك السلطة ترف إشعال جبهة مع منطقة يمكن القول إنها سريعة الاشتعال. كما أن وجود منطقة أخرى تشبه القبائل في الهوية وتختلف عنها في «الحظ»، هي غرداية، التي تعاني من نزيف مستمر، وإن صامت، وتعيش سلما اجتماعيا هشًّا (بسبب حماقات السلطات)، يجب أن يدفع العقلاء في نظام الحكم إلى تفادي فتح جبهة مع القبائل.
هل سيكفي اعتراف الحكومة الجزائرية بـ»ينَّاير» عطلة رسمية لإصلاح العلاقة السيئة بين السلطة الجزائرية ونشطاء منطقة القبائل؟ من الصعب أن يحدث هذا في المدى المنظور. ذلك أن هذه العلاقة ليست فقط سيئة، بل مكسورة. والذين تسببوا في كسرها، من الجهتين، لا زالوا موجودين ويمارسون الأدوار ـ المواجَهة ـ ذاتها تقريبا. كما أن إفراط السلطات في الاحتفال بهذا الإنجاز عبر وسائل الإعلام الحكومية مرفوقا بصور وخطابات الرئيس بوتفليقة إلى حد الملل، من شأنه أن يضر بهذا المكسب أكثر مما يفيده. الأمر هنا يتضمن ما يشبه تشهير أحدهم بآخر بعد أن أسدى له خدمة على الرغم من أن الاستجابة هي ثمرة عقود من التضحيات والصبر من لدن الأمازيغ أكثر منه خدمة. كما لا يخلو من توظيف سياسي فجّ وبائس اعتاد عليه نظام الحكام وزاد أكثر منذ تولى بوتفليقة الرئاسة. لقد استغلت السلطة هذا الموضوع لتبدأ حملة انتخابية رئاسية مبكرة لاقتراع 2019، سيكون بوتفليقة هو «بطلها» ليدشن ولاية رئاسية خامسة من بوابة الأمازيغ.
هنا مربط الفرس: الخوف أن يكون كل هذا «الغرام» تجاه الأمازيغ طوقا لبوتفليقة يمدد به بقاءه رئيسا على الجزائريين، حتى وهو في تلك الحالة الصحية التي يرونه فيها.
العبرة الأخيرة هي أن تلبية مطالب وجيهة لفئة واسعة من السكان يشكلون الأصل في البلاد، لا يسيء للسلطة في شيء، بل على العكس.