هل آن الأوان أن يراجع قطار السينما المغربية سرعته، أم أنه سيظل يسير بعربة قديمة بينما قطار فوزي لقجع يشقّ الطريق بسرعة فائقة؟

شطاري خاص24 ديسمبر 2025
هل آن الأوان أن يراجع قطار السينما المغربية سرعته، أم أنه سيظل يسير بعربة قديمة بينما قطار فوزي لقجع يشقّ الطريق بسرعة فائقة؟

الدكتور: أبا الشيخ اباعلي

سيناريست، عضو فدرالية مهنيي السينما والسمعي البصري بالصحراء

في خضمّ الزخم الإيجابي الذي تعيشه بلادنا هذه الأيام، على وقع النجاحات الكروية والتنظيمية التي جعلت من المغرب محطّ أنظار العالم، يحقّ لنا كمغاربة أن نفخر بالصورة المشرّفة التي يقدمها وطننا، سواء من حيث حسن التدبير، أو جودة البنية التحتية، أو القدرة على تنظيم تظاهرات كبرى بمعايير دولية عالية. لقد أثبت المغرب، مرة أخرى، أن الطموح حين يقترن بالرؤية والصرامة في التنفيذ، يمكن أن يتحوّل إلى إنجاز ملموس يحظى بالاحترام والتقدير.

غير أنّ هذه الفرحة، وأنا أتابع في الآن ذاته النقاش المحتدم حول نتائج الدعم السينمائي الوطني، لا تمنع من طرح أسئلة مقلقة. فبينما تعرف بعض القطاعات دينامية واضحة وسرعة في الإنجاز بفضل رؤية وتدبير محكمين، تبدو السينما المغربية وكأنها تتحرك بإيقاع بطيء، مثقلة بالجدل والتردد. وهو ما يفتح المجال للمقارنة، وربما للمفارقة، بين منطق النتائج والنجاعة الذي أصبح يطبع مجالات معينة، وبين واقع سينمائي لا يزال يبحث عن بوصلته وسط نقاشات متكررة حول الدعم، والجودة، والجدوى.

فهل آن الأوان أن يراجع قطار السينما المغربية سرعته، أم أنه سيظل يسير بعربة قديمة بينما قطار فوزي لقجع يشقّ الطريق بسرعة فائقة؟

منذ أكثر من عشر سنوات، يشكّل صندوق دعم أفلام الثقافة والمجال الصحراوي إحدى الآليات المهمة لدعم السينما في الأقاليم الجنوبية. وخلال هذه الفترة، راكم الصندوق مجموعة من المكتسبات التي لا يمكن إنكارها، سواء على مستوى التشغيل أو التكوين أو الحضور في المهرجانات.
فهذا الدعم ساهم في خلق فرص شغل حقيقية في المجال السينمائي بالصحراء، وفتح الباب أمام شباب المنطقة للاشتغال في مختلف المهن السينمائية، من صوت وصورة إلى إدارة الإنتاج. كما أفرز جيلاً من التقنيين المؤهلين، القادرين على الاشتغال وفق معايير مهنية عالية.
إلى جانب ذلك، أفرز الصندوق مجموعة من الأفلام التي استطاعت أن تفرض حضورها وتخلق تنافسية لافتة في عدد من المهرجانات الوطنية والدولية.
غير أن ما كان يُنتظر هو أن تستمر هذه الدينامية في تصاعدها، وأن تتعزز هذه المكتسبات بدل أن تعرف نوعًا من التراجع أو الجمود.

يُعدّ الاشتغال على ثقافة الصحراء حقًا مشروعًا ومكفولًا لجميع المغاربة من طنجة إلى الكويرة، وذلك في انسجام تام مع روح دفتر التحملات المنظّم لهذا الصندوق، الذي ينصّ بوضوح على إعطاء الأولوية للمنتجين والمخرجين المنتمين إلى الأقاليم الجنوبية، دون أن يعني ذلك إقصاء باقي الكفاءات الوطنية. غير أنّه، ورغم استفادة عدد من المخرجين المعروفين على الصعيد الوطني من دعم هذا الصندوق، كان من المنتظر أن تُشكّل مشاريعهم، بحكم خبرتهم وتجربتهم، قيمة مضافة حقيقية تُغني التجربة وتُسهم في الارتقاء بها فنيًا وثقافيًا. إلا أنّ الحصيلة جاءت، في كثير من الحالات، عكس التطلعات، إذ طغى منطق “البريكول” والاشتغال السطحي على العمق والالتزام، وهو ما يتنافى مع أهداف الصندوق وروحه، فالدعم العمومي ليس بقرة حلوب، بل أداة للنهوض بثقافة الصحراء باحترام، ومسؤولية، ورؤية إبداعية جادة.

وفي هذا السياق، لا يمكن عزل ما يجري على مستوى صندوق دعم أفلام الثقافة والمجال الصحراوي عن الصورة الأشمل للسينما الوطنية عمومًا، وهي صورة تطرح اليوم أكثر من علامة استفهام. فالمتابع لمسار الفيلم المغربي في السنوات الأخيرة يلاحظ تراجعًا واضحًا في حضوره داخل المهرجانات الدولية الكبرى والمحطات السينمائية العالمية، بعد أن كان، إلى وقت قريب، حاضرًا بقوة ومحلّ اهتمام نقدي وبرمجي.
ويكفي التوقف عند بعض المؤشرات الدالة على هذا التراجع، من بينها الغياب التام للفيلم المغربي عن مختلف مسابقات الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية، وهو مهرجان له رمزية خاصة في الفضاءين العربي والأفريقي، وكان تاريخيًا منصة أساسية للتعريف بالسينما المغربية وإبراز تجاربها الجديدة. كما يلفت الانتباه عدم ترشيح أي فيلم مغربي للمراحل المتقدمة من جوائز الأوسكار، رغم حجم الإنتاج والدعم العمومي المرصود سنويًا، وهو ما يطرح تساؤلات مشروعة حول القدرة التنافسية للأعمال المنتَجة، ومدى استجابتها للمعايير الفنية والترويجية المطلوبة عالميًا.
ولا يقلّ هذا الوضع وضوحًا على مستوى المهرجانات الأفريقية الكبرى، التي كانت في السابق تشهد حضورًا وازنًا للسينما المغربية، سواء من حيث المشاركة أو التتويج أو الحضور داخل لجان التحكيم والبرمجة. اليوم، يبدو هذا الحضور خجولًا أو شبه غائب، ما يعكس خللًا أعمق من مجرد اختيارات ظرفية أو صدفة عابرة.
أمام كل ما سبق، يفرض سؤال جوهري نفسه بإلحاح: هل تعيش السينما المغربية مرحلة انتكاسة على مستوى الإبداع، أم أن الإشكال مرتبط أساسًا بضعف التوزيع والترويج والاختيارات الاستراتيجية؟ أم أن الأمر يتعلق بتراكم اختلالات بنيوية، تبدأ من طريقة صرف الدعم العمومي، وتمر عبر غياب رؤية واضحة للسياسات الثقافية السينمائية، ولا تنتهي عند محدودية مواكبة الأفلام بعد إنجازها؟
إنّ السينما، في جوهرها، ليست مجرد إنتاج أفلام، بل هي منظومة متكاملة تقوم على الفكرة، والكتابة، والجرأة الفنية، والاشتغال الجاد، ثم على الترويج الذكي والحضور المدروس داخل الشبكات الدولية. وعندما يغيب أحد هذه العناصر، أو يُستبدل بمنطق الاستسهال وتكرار الوصفات الجاهزة، يصبح من الطبيعي أن يتراجع الإشعاع، مهما ارتفعت ميزانيات الدعم.
من هنا، تبدو الحاجة ملحّة اليوم إلى وقفة تقييم صريحة وشجاعة، تُعيد طرح الأسئلة الحقيقية حول جدوى السياسات الحالية، وحول مسؤولية مختلف المتدخلين، من مؤسسات داعمة، ومهنيين، ونقاد، ومبرمجين. فالدعم العمومي، سواء تعلق بالسينما الوطنية أو بسينما الأقاليم الجنوبية، ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لإنتاج أعمال تحمل رؤية، وتعكس تنوع الهوية المغربية، وتملك القدرة على مخاطبة العالم بلغة فنية صادقة، بعيدة عن “البريكول” والسطحية، وقريبة من العمق والابتكار والالتزام الثقافي.

في المحصّلة، لم يعد النقاش حول دعم السينما المغربية، وسينما الأقاليم الجنوبية على وجه الخصوص، ترفًا ثقافيًا أو خلافًا ظرفيًا، بل أصبح ضرورة ملحّة تفرضها مؤشرات التراجع وضعف الإشعاع الدولي. فالنجاح الذي تحققه قطاعات أخرى في بلادنا يؤكد أن الإشكال ليس في الإمكانيات ولا في الطاقات، بل في الرؤية، والحكامة، وربط الدعم بالنتائج. وإذا كانت كرة القدم قد نجحت في فرض اسم المغرب عالميًا بفضل الوضوح والجرأة والمحاسبة، فإن السينما مدعوة اليوم إلى وقفة شجاعة تعيد الاعتبار للفكرة والإبداع والالتزام، وتحرّر الدعم العمومي من منطق الاستسهال و المحسوبية . وحدها سينما تشتغل بوعي ومسؤولية، وتحمل مشروعًا ثقافيًا حقيقيًا، قادرة على استعادة مكانتها، وإقناع العالم بأن المغرب لا يملك فقط ملاعب بمعايير دولية، بل أيضًا صورًا وحكايات تستحق أن تُروى وتُشاهد.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


عاجل