شطاري-متابعة:
في الأزمنة التي تتراخى فيها السلط، وتصاب فيها الأنظمة بحساسية مفرطة تجاه الحرف، تغدو الكلمة فعلا ميتافيزيقيًا؛ يتجاوز حبره، ويتحول إلى جريمة معلقة في فراغ قانوني مشبوه.
في هذا السياق، لا يبدو اعتقال الروائي الجزائري “بوعلام صنصال” حدثا عابرا، بل علامة بارزة على التشوه البنيوي في علاقة الدولة الجزائرية بفكرة المثقف، وبمفهوم “الوطن” ذاته، حين يختزل إلى حدود لغوية، وعقائد رسمية، وخطابات مغلقة.
صنصال، الذي لطالما كتب ضد صمت التاريخ، وجد نفسه فجأة داخل متاهة دولة لم تعد تفرق بين معارضة الكلمة وخيانة العلم؛ فاعتقاله وسجنه بتهم فضفاضة مثل “المساس بالوحدة الوطنية”، ليس مجرد قرار قضائي، بل تكثيف رمزي لعلاقة السلطة بالخوف الوجودي من الفكر النقدي.
بوعلام صنصال: الكاتب كمفكر مضاد
لم يكن صنصال مجرد راو لحكايات الجزائر الحديثة؛ لقد كان بمثابة ضمير مضاد، يعيد تركيب ما تم إسقاطه عمدا من سرديات الدولة، ففي رواياته، من قسم البرابرة إلى 2084: نهاية العالم، كان يسكن تخوم الكتابة ويقتحم مناطق اللامفكر فيه… كتب عن الحرب الأهلية، عن بقايا الاستعمار، عن الإسلاموية الصاعدة، وعن علاقة الجزائر بذاتها المفككة، وهذا ما جعل منه خطرا على النمط السلطوي الذي يرى في المثقف وظيفة دعائية، لا كينونة استشكالية.
إن صنصال، ابن المؤسسة التكنوقراطية سابقا؛ تمرد على لغة السلطة وعلى مفرداتها الصلبة، وكتب من موقع “المنشق من الداخل”—وهذا أخطر موقع يمكن أن يشغله المثقف في بلد يعاني من عصاب سياسي مزمن. لقد رفض أن يكون شاعر بلاط، ورفض في الآن ذاته منطق “الاستشراق الداخلي” الذي يسقط فيه بعض المثقفين حين يتماهون كليا مع المنظور الغربي دون مساءلة.
لكن السؤال الحقيقي هنا ليس عن “صنصال الفرد”، بل عن البنية السياسية التي تسمح باعتقاله ومحاكمته بهذه الطريقة.. كيف تفهم الدولة الجزائرية وحدتها الوطنية؟ ما معنى أن تتحول عبارة حول الحدود المغربية—حتى لو كانت مثيرة للجدل—إلى مبرر لسلب الحرية؟ هل الوطن فكرة ميتافيزيقية لا يجوز الاقتراب منها، أم مشروع سياسي ينبغي مساءلته؟
ما نشهده هو تحول الدولة إلى “جهاز أمني رمزي” يعاقب النوايا لا الأفعال، والأفكار لا الجرائم، فالتهم التي تستخدم اليوم ضد الكتاب ليست جديدة، لكنها أصبحت ملبسة بثوب القانون، تدار عبر ما يسمى “السلطة الرمادية” التي تنسق بين الأمن، القضاء، والإعلام الرسمي.
فالقوانين المتعلقة بالمعلومات الكاذبة، أو “تهديد الوحدة الوطنية”، باتت أدوات مطاطية تحاصر كل فضاء نقدي، وتحول المثقف إلى مشتبه به أبدي.
غياب المجتمع المدني: صمت أكثر فتكا من السجن
إذا كان النظام الجزائري يمارس القمع وبشدة، فإن الصمت الجمعي الذي أعقب محاكمة صنصال هو قمع من نوع آخر؛ قمع أخلاقي، ثقافي، وتاريخي، فلم تصدر الجامعات الجزائرية، ولا اتحادات الكتاب، ولا المؤسسات الثقافية الرسمية، أي بيان ذي قيمة.
لقد تحول الفضاء العام إلى صحراء رمزية، هجر منها العقل النقدي، واختزلت الثقافة إلى احتفاليات سطحية ومهرجانات ممولة.
وهذا الصمت ليس بريئا، بل هو جزء من استراتيجيات السيطرة التي تفرغ المجتمع من نخبه، وتدفعهم إما إلى التهميش، أو إلى النفاق الخطابي.. إنها حالة “تواطؤ ناعم” تنتج مجتمعا بلا مثقفين، وجامعات بلا مساءلة، وأدبا بلا سياسة.
المثقف والمنفى الداخلي: هل نحن أمام تكرار لكَنفاني وأدونيس؟
بوعلام صنصال، وإن بقي جسده في الجزائر، فقد أصبح ينتمي إلى ذلك النوع من المثقفين الذين يعيشون في “منفى داخلي” دائم، فكتاباته تعيد إلى الذاكرة تجربة “غسان كنفاني” في مساءلة الذات الثورية، أو أدونيس في نقده لمجتمعات الاستبداد، لكن ما يميز صنصال هو أنه يكتب من داخل الطيف الجمهوري، لا من خارجه؛ يكتب ضد السلطة لكنه لا يتماهى مع الأوهام الثورية الجوفاء، ولا مع الروايات الغربية السطحية عن “الإسلام السياسي”.
إنه يعيد طرح الأسئلة الحارقة: ماذا يعني أن تكون مواطنا في دولة لا تؤمن بالاختلاف؟ ما هو موقع الرواية حين تتحول إلى جريمة؟ وهل الوطن هو الأرض، أم إمكانية الكلام الحر فوقها؟
وكيف تصبح العدالة أداة إيديولوجية؟
إن محاكمة صنصال تظهر تقاطعا خطيرا بين الدولة والقانون، فالتهم التي وجهت إليه “نشر خطاب يهدد الوحدة الوطنية” هي تهم سياسية بامتياز، لا تعتمد على ضرر فعلي بل على تأويلات نوايا، وهي تتعارض بوضوح مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه الجزائر.
العدالة هنا لا تعمل كسلطة مستقلة، بل كذراع إيديولوجي للدولة، والنظام لا يحاكم ما قاله صنصال، بل يحاكم رمزيته، واستقلاله، وجرأته على أن يتكلم خارج النص، وهو بذلك لا يحاكم شخصا، بل يصدر حكما غيابيا على إمكانية التفكير ذاته.
الدولة التي تخاف من ظلها
ما تخشاه الدولة الجزائرية ليس صنصال، بل الفكرة التي يمثلها،
أن الكلمة تعيد ترتيب العالم، وأن الحرف أقوى من الحدود، لأن النظام لا يملك قدرة الحوار، ولأنه لم يحصن شرعيته إلا بالخوف، لا بالثقة.
إن سجن صنصال ليس حدثا فرديا، بل مرآة كاشفة لمأزق الدولة الجزائرية حين تتصادم مع فكرة المواطن الحر.
وما يوجع في قضية صنصال ليس حكم المحكمة، بل الصمت الذي تواأ مع الحكم، وإن كانت الكلمة تسجن اليوم، فذلك لأن الصمت أصبح عقيدة رسمية، ولأن الأنظمة الاستبدادية لا تخشى الانفجارات، بل تخشى الأسئلة الصغيرة التي لا تموت.
وفي النهاية، قد تسجن الرواية، لكن لا أحد يستطيع سجن المعنى.