كلما اقتربنا من موعد 7 أكتوبر إلا وارتفعت حدة النقاش ومعها سترتفع حدة التوتر. التوتر ما بين معسكرين يتجاذبان أجنحة الدولة. معسكر السلطة مسنودة بأجهزتها وأحزابها وإعلامها، التي تريد أن تعيد ساعة الضبط والتحكم إلى ما قبل 2011، ومعسكر حزب الحكومة ومن يدور في فلكله من أحزاب متحالفة معه وإعلام مساند له ممن يعتقدون في إمكانية الإصلاح من داخل المؤسسات، ومستعدون لتقديم كل التنازلات وانتظار عقود أخرى من الزمن من أجل تحقيق ما يعتبرونه إصلاحا تدريجيا يمكن كسب معركته بالنقاط وليس بالضربات القاضية.
وما بين المعسكرين يوجد جيش من المنتظرين والمترددين ومن الصامتين ومن اللامبالين ممن ألفوا الانتظار أو عدم الاكتراث، أو فقدوا الثقة في اللعبة وقواعدها، أو ممن يريدون أن تدار بطريقة أخرى،ووضعوا أنفسهم خارجها لأنهم يشككون في نزاهتها، أو ممن يشعرون بأن لا مكان لهم في كل معادلاتها القائمة على الضبط والتحكم.
اختبار للإرادة السياسة
انتخابات 7 أكتوبر، ستكون أكبر من استحقاق انتخابي لتجديد أعضاء مجلس النواب الذي ظل منذ أن أنشِئ مجرد غرفة للتسجيل لا غير، إنها اختبار حقيقي لإرادة الإصلاح السياسية التي ظلت دائما غائبة أو مغيبة لأسباب في نفس السلطة السياسية الحقيقيةفي البلاد.
ثمة من يضع على هذه الاستحقاقات الكثير من الرهانات، ويحملها أكثر مما يمكن أن تحتمل، وثمة من يعتبر أنها لن تغير أي شيء في المشهد السياسي، وإنما ستزيد من تكريس قوة الضبط والتحكم الذي كاد أن ينفلت زمامه من السلطة عام 2011.
أصحاب وجهة النظرة الأخيرة يُعفون أنفسهم من كل تحليل لأنهم ينطلقون من “كليشيهات” جاهزة للحكم على ما جرى ويجري وسيجري، ولا يعني هذا أي تقليل من وجهة نظرهم بقدرما يعني أن كل تحليل في هذا الاتجاه سيكون مجرد تحصيل حاصل بالنسبة لهم. لذلك سأغلق القوس هنا وأعود إلى أصحاب وجهة النظر التي ترى فيما يجري “تدافعا” و”تنافسا” على السلطةوالمواقع والمناصب والمكاسب… كل حسب مرجعيته وقناعاته ودوافعه.
استحقاق صعب
ولننطلق من تحليل وجهة نظر السلطة التي تمثلها المؤسسة الملكية ودائرة صنع القرار القريبة من الملك، ووزارة الداخلية والأجهزة التابعة لها، والأحزاب التي تدور في فلكها والإعلام المروج لتنظيراتها. بالنسبة لهذا الفريق فهم يجدون أنفسهم أمام واحد من أصعب الاستحقاقات كانوا يتمنون، بل وسعوا ومازالوا يسعون إلى إبعاده ما أمكن وتجنب خوضه إلى حين. ولو سئل اليوم هؤلاء عن أحب شيء إلى أنفسهم لجاء جوابهم هو تأجيل استحقاق أكتوبر إلى أجل غير مسمى.
فمنذ أن أُعلن عن تاريخ الانتخابات المقبلة سعى هذا الفريق، عبر وسائل إعلامه، وبعض الناطقين بلسانه، أن يدفع في اتجاه تأجيل تاريخ إجراءها، وفي كل مرة كانت تساق دوافع مختلفة لتبرير هذا التأجيل الذي مازال مطلبا قائما، من قضية الصحراء وتداعياتها إلى الوضع الأمني الإقليمي وتحولاته المفاجئة، إلى ضرورة الإعداد الجيد لها.. وعملت وزارة الداخلية كل ما في وسعها من أجل تأخير وتعطيل القوانين المنظمة له، وكان آخر تعطيل لهذا الاستحقاق هو تأجيل انعقاد المجلس الوزاري لمدة شهرين كاملين، بدون مبرر معقول، وحتى بعد انعقاد هذا المجلس والمصادقة على القوانين التنظيمية الانتخابية مازال هناك من يدفع بالقول بإمكانية الطعن الدستوري في الانتخابات المقبلة في حالة ما إذا جرت في التاريخ المحدد لها، بدعوى أن الأجندة الزمنية المتبقية لتنظيم هذه الاستحقاقات قد لا تحترم المواعيد الزمنية المنصوص عليها في قوانينها التنظيمية.
أيضا، سعى أصحاب هذا المعسكر ومازالوا يسعون بكل الطرق والسبل إلى التحكم القبلي في نتائج الاستحقاقات المقبلة حتى لا تتكرر نفس مفاجئات انتخابات 2011 و2015، ومن أجل هذا الغرض تم طرح “رٌزنامة” من القرارات والاقتراحات والاعتراضات بهدف التحكم القبلي في رسم الخارطة السياسية لما بعد 7 أكتوبر. وهكذا تم رفض إعادة النظر في القوانين الانتخابية خاصة ما يتعلق بنمط الاقتراع، ورفض وضع قوائم انتخابية جديدة، ورفض تقليص عدد مكاتب التصويت، ورفض التصويت بالبطاقة الوطنية، ورفض خلق لجنة وطنية لتنظيمها.. وبالمقابل تم فرض تخفيض العتبة الانتخابية، وفُتح النقاش، بدون مناسبة، لإعادة النظر في اللوائح الوطنية الخاصة بالمرأة والشباب، وتم تلغيم بعض القوانين الانتخابية بما سيسمح مستقبلا، عند كل غاية، بالطعن في دستوريتها،ومع كل تغيير أو تعيين جديد لمسؤولي الإدارة الترابية يتحرك التقطيع الانتخابي بما تشتهيه وترسمه آلة الضبط لدىالسلطة.. كل هذه الإجراءات الهدف منها واضح ألا وهو مزيد من الضبط والتحكم في نتائج الاستحقاقات المقبلة.
جبهة مواجهة “التحكم”
ومقابل هذا المعسكر يقف المطالبون بإجراء هذه الاستحقاقات في موعدها، يتزعمهم حزب “العدالة والتنمية” ورئيسه الذي يرأس في نفس الوقت الحكومة، يدعمه حزب “التقدم والاشتراكية” الذي رهن مستقبله ووجوده بزواجه الكاثوليكي مع حزب رئيس الحكومة، والتحق بهم في ربع ساعة الأخيرة حزب “الاستقلال” الذي أحرق أمينه العام كل قوارب عودته إلى حضن السلطة، تساندهم بعض الصحف الورقية والرقمية الموالية أو القريبة منهم. وأصحاب هذا المعسكر ، الذي دعا زعيمه بنكيران إلى تكتله داخل جبهة لمواجهة “التحكم”، يراهنون على شيء واحد هو فوز حزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات المقبلة، وتحقيقه مفاجئة جديدة تقوى موقفهم أمام المعسكر الذي يصفونه بـ “التحكم”. وينطلق هؤلاء في توقعاتهم من نتائج الانتخابات المحلية التي شهدها المغرب في سبتمبر 2015، وأعطت الأسبقية للحزب الذي يقود الحكومة، كما ينطلقون من حالة الفراغ والضعف الذي أبانت عنه المعارضة الحكومية المهلهلة والمشتتة وأكدته نتائجها في انتخابات سبتمبر الماضية.
وأصحاب هذه المعسكر يعتقدون حد اليقين الراسخ بفوزهم في الانتخابات المقبلة، وهذه الثقة الزائدة في النفس هي التي دفعتهم إلى تقديم تنازلات، من قبيل قبول تخفيض العتبة الانتخابية، واستعدادهم لتقديم المزيد منها مستقلا، فقط من أجل كسب ثقة ورضى السلطة عنهم. وفي هذا السياق لا يمل رئيس الحكومة من الإدلاء بالتصريحات التي يؤكد فيها بأن حزبه لا يطمح إلى الهيمنة، بل ولا يسعى إلى أن يحقق نتائج تخل بموازين القوى التي وضعتها السلطة للتحكم في قواعد اللعبة السياسية.
تكاد تكون هذه هي الصورة من بعيد كما قد تتراءى للمراقب المحايد، فماذا عن الاحتمالات والسناريوهات التي لا يكتمل أي استحقاق سياسي، مثل كل لعبة رهان، بدونها.
هنا تتعدد السيناريوهات وتتضارب التوقعات.
وقف زحف بنكيران
بالنسبة للسلطة، يبدو أنها لا ترغب في التجديد لعبد الإله بنكيران على رأس ولاية ثانية، وقد أبانت عن رغبتها هذه من خلال عدة إشارات بالإضافة إلى وجود عدة أسباب تدفعها إلى ذلك.
أولا، رغم مرور خمس سنوات قضاها حزب “العدالة والتنمية” على رأس الحكومة، فهو مازال لا يحظى بالثقة الكاملة من طرف الملك ومحيطه الذي لا يتواني في إرسال الإشارات في كل الاتجاهات لتصوير بنكيران وأعضاء حكومته كموظفين سامين لدى “الصدر الأعظم” الجديد الذي بات يلعب دوره فؤاد عالي الهمة، المستشار المفَضل والصديق الخاص للملك.
ثانيا، الهجمة الإعلامية القوية ضد حزب “العدالة والتنمية” ورئيسه من قبل وسائل إعلام محسوبة على الأجهزة القريبة من الأجهزة ودوائر صنع القرار في المغرب.
ثالثا، توقيت خروج رجال الأعمال من خلال منظمتهم “فيدرالية رجال الأعمال المغاربة”، للهجوم على الحكومة وانتقاد أدائها الاقتصادي بالتوازي مع حملة إعلامية تشنها صحف اقتصادية مقربة من السلطة تنتقد أداء الحكومة بعد خمس سنوات من مهادنتهابل وفي بعضالأحيان كانتتمتدح قراراتها وتغازلها باستطلاعات الرأي ، رغم أنها ممنوعة قانونيا في المغرب، والتي كانت تظهر شعبية رئيس الحكومة.
رابعا، صدور تصريحات وتقارير عن مؤسسات عمومية نافذة،تنتقد وترصد الوضع السيئ لحالة الاقتصاد والمجتمع، مثل تصريحات والي بنك المغرب، وتقارير مؤسسات عمومية مثل “المجلس الأعلى للحسابات”، و”المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي”، و”المندوبية الساميةللتخطيط”.. ورغم أن بعض هذه التقارير تتميز بموضوعية كبيرة إلا أن توقيت صدورها ووجود أشخاص على رأس المؤسسات التي تصدرها، معينون من طرف الملك أو يأتمرون بأوامر السلطة، تجعل المراقب يضع أكثر من علامة استفهام حول توقيتها.
خامسا، محاولات إشعال الجبهة الاجتماعية، من خلال رفع النقابات، التي تم تدجينها، لسقف مطالبها في حوارها مع الحكومة، ومضاعفة طرق ضغطها عليها بالإضرابات والوقفات الاحتجاجية، موازاة مع محاولة استغلال حراك اجتماعي طبيعي كان ومازال موجودا داخل المجتمع، عن طريق التغاضي عنه وعدم منعه كما كان يحدث في السابق، لرفع وتيرة الضغط على الحكومة في الربع ساعة الأخيرة من ولايتها.
نقاط ضعف
وعلى الجانب الآخر، يقود معسكر الحزب الذي يرأس الحكومة، هجمة مضادة ضد ما يسميه “التحكم”، في إشارة إلى حزب “الأصالة والمعاصرة” وإلى المحيط الملكي. لكن هجوم هذا المعسكر تعتريه الكثير من نقاط الضعف.
أولا، يشن هذا المعسكر هجومه على مفهوم “التحكم” دون أن يتحلى بالجرأة لوصف ما يقصده بذلك، وأقصى ما يستطيع هذا المعسكر أن يشير إليه بأصبعه هو حزب “الأصالة والمعاصرة” وأمينه العام، مع أن الكل يعرف بأن المتحكم الحقيقي هو القصر و المقربون من القصر.
ثانيا، يعتقد هذا المعسكر أنه ينهج خطة تكتيكية عندما يحاول أن يميز في هجومه بين الملك ومحيطه، اعتقادا منه، عن قناعة أو عن تملق، بإمكانية الفصل بين الطرفين من أجل كسب ثقة ورضى الملك، ولتحقيق هذه الغاية فإن هذا المعسكر مستعد لتقديم كل التنازلات وبلا حساب.
ثالثا، هذا المعسكر ليس كتلة واحدة متراصة مثل المعسكر الذي يقابله، فحسابات إخوان بنكيران تختلف عن مصالح رفاق حليفه في الحكومة نبيل بعبد الله، وما يجمعها مع مواقف زعيم حزب “الاستقلال” الأخيرة هي فقط مزايدات هذا الأخير بعد أن وعى بأنه تم استغلاله لإسقاط رئيس الحكومة الذي يخطب اليوم وده ويسعى إلى التحالف معه والاستجارة به من انتقام يحس به قادما من أولياء نعمته في السلطة بعدما قطع شعرة معاوية معهم.
رابعا، التحالف الحكومي في المغرب، هو مجرد نكتة كبيرة، وهذه الحقيقة يعلمها رئيس الحكومة قبل غيره، فهو يدرك أن حزبي “الأحرار” و”الحركة الشعبية”، دون الحديث عن وزراء السلطة داخل نفس الحكومة، يأتمرون بأوامر غير أوامره، وقد خرج هذا الخلاف إلى العلن أكثر من مرة مع وزير الداخلية، ووزير الفلاحة والصيد البحري، ووزير التربية الوطنية، ووزير المالية والاقتصاد.. بل حتى داخل وزراء حزب بنكيران هناك من أصبح يميل إلى إغراءات السلطة ووعودها مثل وزرائه في التجهيز والنقل، والعدل والحريات، والاتصال.
خامسا، وهذه هي نقطة الضعف الكبيرة عند أصحاب هذا المعسكر، وتتعلق بحصيلة الحكومة، والتي يمكن تلخيصها في عبارة واحدة وهي أنها طبقت بشكل حرفي تدابير المؤسسات المالية الدولية وأغلبها تدابير ضد القدرة الشرائية للمواطنين.وتناست شعار حملتها الانتخابية الذي وعد بمحاربة الفساد، وعكس ذلك تغول الفساد واستشرى في الإدارات والمجتمع ووصل بهم الأمر إلى حد اعتقال فاضحيه وتبرئة مرتكبيه. واجتهدت في إخراج قوانين في مجال حرية الصحافة والقانون الجنائي، كان يصعب أن تمر لو بقي حزب “العدالة والتنمية” في المعارضة، دون أن نُضيف شيء آخر إلى هذا الكلام.
سيناريوهات عدة
أمام هذا الوضع تبقى عدة سيناريوهات محتملة لاستشراف ما بعد 7 أكتوبر.
– احتمال تأجيل هذا الاستحقاق في آخر لحظة، ولن تعدم الجهة الساعية إلى هذا التأجيل في البحث عن مخارج لتبرير قرارها، رغم أن هذا السيناريو يبدو اليوم مستبعدا وغير مضمون العواقب.
– السعي إلى استعمال كل أدوات وآليات الضبط والتحكم لتحجيم نتائج حزب “العدالة والتنمية” حتى لا يخرج كقوة منتصرة، مثلما حدث في انتخابات سبتمبر 2015 عندما سرق منه حزب “الأصالة والمعاصرة” انتصاره المستحق بالضربات الترجيحية في الوقت بدل الضائع.
– الحيلولة دون التجديد لعبد الإله بنكيران، على رأس الحكومة المقبلة، للحد من “كاريزميته” المتنامية، وحتى لا يصبح اختيار رئيس الحزب المتصدر للانتخابات عرفا لا يمكن الحياد عنه، أو ربما فقط ليبقى اختيار رئيس الحكومة المقبلة لغزا لا يجب أن تعرفه العامة قبل أن يقرر فيه القصر.
– احتمال تصدر حزب “الأصالة والمعاصرة” نتائج الانتخابات المقبلة، وهذا أمر غير مستبعد أيضا، وفي هذه الحالة تعيين أمينه العام الحالي رئيسا للحكومة أو اختيار شخصية ثانية من داخل الحزب أو من خارجه، يرشحه الحزب، والحديث هنا عن عزيز أخنوش، لقيادة الحكومة المقبلة. وهناك من يرى في مثل هذا السيناريو الكثير من المخاطر على مستقبل استقرار البلاد، ومن يرى فيه فرصة لإحياء الحراك الشعبي الذي تآمر عليه لاعبو لعبة سياسيةمقيتة.
– احتمال قيام حكومة تحالف أو وحدة وطنية، تشارك فيها جميع الأحزاب السياسية لكسر حالة الاستقطاب بين هذه الأحزاب وفي نفس الوقت لدفعها إلى مزيد من التطبيع فيما بينها وإظهارها أمام الرأي العام على نفس قدم المساواة لا مجال للمزايدات فيما بينها. وهذا السيناريو يحمل في طياته مخاطر ترك المجال فارغا أمام المعارضة الاحتجاجية من خارج المؤسسات الرسمية لتأخذ مداها الذي لا يمكن التحكم في حدوده.
خلاصة القول، وسواء أجريت انتخابات 7 أكتوبر في تاريخها المعلن أو تم تأجيلها، وسواء شارك فيها الناخبون بكثافة أو قاطعوها بكثافة، وسواء تصدر نتائجها حزب “العدالة والتنمية” أو حزب “الأصالة والمعاصرة”، وسواء بقى بنكيران رئيسا للحكومة أو عين صديق الملك، عزيز أخنوش على رأسها، فإن اللعبة لن تخرج من النسق العام المرسوم لها، ولن تحدث المفاجئة، لأن الشعب المغربي تعود التطبيع السريع مع واقع الأمر المفروض عليه من فوق، وهذا ما يجعل هذه اللعبة تستمر منذ عدة عقود يتغير اللاعبون وتبقى قواعدها هي هي.