أكمل العاهل المغربي، الملك محمد السادس، 54 عاماً من عمره قبل أيام قليلة، 18 سنة في سدة الحكم في المغرب. واتسمت مرحلة حكمه بالكثير من المتغيراتوالثوابت التي لم تحد عنها المؤسسة الملكية. ويصف مراقبون النظام السياسي في المغرب، منذ اعتلاء محمد السادس عرش البلاد في صيف 1999، بعد وفاة والده الحسن الثاني، بأنه مزدوج، إذ يجمع الأصالة والمعاصرة، والتقاليد والتحديث.
الوجه التحديثي والعصري في فترة الملك الشاب، حين وصل إلى الحكم، برز منذ اليوم الأول في إعلان زواجه بالأميرة سلمى، وهو ما لم يكن متاحاً معرفته ولا الإعلان عنه في عهد والده من قبل. وعرفت فترة حكم الملك المغربي أيضاً اشتهاره بلقب ملك الفقراء، إذ كان قريباً من الطبقات الفقيرة والمهمشة، يستجيب لطلباتهم في الحصول على وظيفة أو سكن أو رخصة لامتلاك سيارة أجرة. وكرس الملك هذا التوجه بظهوره في صور عديدة برفقة مواطنين مغاربة، سواء داخل البلاد أو عند حلوله في دول أخرى ضمن زيارات خاصة أو رسمية، وهو ما شكل ظاهرة تواصلية لم يألفها المغاربة طيلة عقود مع حكم والده الحسن الثاني.
ظهر محمد السادس أكثر مرونة ورغبة في القطع مع “التركة القديمة” لوالده
وتنتشر صور العاهل المغربي خلالجولاته الخاصة بسيارته في شوارع المدن التي يزورها، خصوصاً الدار البيضاء وبعض مدن الشمال، وصوره التذكارية أيضاً التي يطلبها منه مغتربون مغاربة في بلدان أفريقية وعربية وأوروبية يزورها باستمرار. وبخلاف الملك الراحل الذي كانت صوره الشخصية نادرة، ولم يسبق له أن التقط صوراً تذكارية مع مواطنين، فإن العاهل الحالي دأب على الاستجابة لطلب أخذ الصور معه بكل تلقائية أثارت اهتمام الصحافة المحلية والدولية أيضاً. ووصفت الصحافة الغربية الملك المغربي بأنه “سلطان السيلفيات”، مسجلة بأنه من النادر مشاركة صور رئيس دولة على مواقع التواصل الاجتماعي بالطريقة التي تتم بها صور العاهل المغربي.
واستأثرت صور الملك على فضول المغاربة، خصوصاً بفضل ملابسه و”الموضة” التي يتبعها، وهو ما راق لفئة الشباب، التي تعتبره ملكاً عصرياً يرتدي أزياء العصر والحداثة من دون أدنى مركب نقص. وهناك من يرى في نشر الصور الخاصة بالملك، سواء في بدايات حكمه وهو يقود دراجة بحرية أو في رحلة قنص، أو خلال السنوات الأخيرة بالوقوف جنباً إلى جنب مع مواطنين مغاربة، بكونها سياسة تواصلية متعمدة تهدف إلى تقريب الملك من شعبه، خصوصاً فئة الشباب، أكثر فأكثر. ويوصف اللباس العصري والشبابي الذي يرتديه الملك، متحرراً من البروتوكولات الأمنية اللصيقة، ورواج كمّ هائل من صوره و”سيلفياته” مع المغاربة، بحسب محللين، على أنها “توابل” تفيد الصورة الرمزية للجالس على عرش المملكة. وفي السياسة، ظهر محمد السادس خلال فترة حكمه أكثر مرونة ورغبة في القطع مع “التركة القديمة” لوالده، أولها إعفاء وزير الداخلية الراحل، إدريس البصري، الذي كان يوصف بالرجل الحديدي في عهد الحسن الثاني. وكان للملك أيضاً بصمة إيجابية في مجال حقوق الإنسان، إذ وافق على إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة لجبر الضرر المادي والمعنوي لضحايا ما يسمى بسنوات الرصاص في عهد الحسن الثاني. وكانت مرحلة الملك الراحل قد عرفت تطاحنات وأحداثا سياسية عقدت مسار التنمية وتثبيت الانتقال الديمقراطي في البلاد، من خلال اصطدامات بين اليساريين والنظام الملكي، ما أفضى إلى عمليات اعتقال طويلة الأمد. كما تم الزج بعشوائية في السجن بكل من له صلة بمحاولة الانقلاب الفاشل سنة 1971.
حداثة نظام الحكم في فترة محمد السادس ظهرت جلياً أيضاً في إقرار إصلاحات اجتماعية ودينية مهمة. ففي الجانب الاجتماعي تم إصلاح مدونة الأسرة ومنح مزيد من الحقوق للمرأة، والدفع صوب إرساء المساواة استجابة لمطالب منظمات نسائية عديدة. وفي السياسة الدينية، أظهر المغرب، خلال 18 سنة من حكم محمد السادس، قدرته على ضبط التحولات الهوياتية والإيديولوجية في البلاد، خصوصاً بعد الصدمة التي أربكت هدوء المملكة في 16 مايو/أيار 2003، عندما حدثت تفجيرات إرهابية، ذهب ضحيتها زهاء 45 شخصاً. ومنذ ذلك الحين، نهج النظام السياسي الحاكم في البلاد سياسة دينية معتدلة، سميت بـ”تجديد الحقل الديني”، قوامها تعزيز الاعتدال والوسطية، والتمسك بالمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، والطريقة الصوفية للإمام الجُنيد، وبالتالي نبذ التطرف المفضي إلى تشكل الفكر الإرهابي الذي قوبل بحزم من طرف الأجهزة الاستخباراتية والأمنية المتعددة في البلاد.
ويُحسب للنظام السياسي الحاكم في البلاد أيضاً مرونته وواقعيته وعدم “صم الآذان” خلال فترة ما يدعى “الربيع العربي”، إذ سارع الملك إلى إلقاء خطاب، في 9 مارس/آذار 2011، أعلن فيه حزمة إصلاحات دستورية مهمة. هذه الإصلاحات، التي أعلنها الملك المغربي تجاوباً، أو تحت ضغط الحراك الشعبي الهائل في شوارع المملكة سنة 2011 في سياق “حركة 20 فبراير“، بدأت بإقرار دستور جديد، تضمن صلاحيات أوسع لرئاسة الحكومة وسحبها من تحت بساط القصر، وانتهت بانتخابات مبكرة توجت إسلاميي “العدالة والتنمية” على رأس الحكومة ولولايتين متتاليتين، مع ما حصل من مفاجآت في هذا المسار، من قبيل إعفاء عبد الإله بنكيرانوتعيين سعد الدين العثماني، رئيساً للحكومة الجديدة.
“ |
هذه المقاطع “المختصرة” من نظام سياسي حاكم يبدو حداثياً وعصرياً ومرناً في المغرب خلال السنوات الماضية، قابلها نظام حافظ على “التقاليد المرعية” في حكم السلطان، خصوصاً طقوس البيعة والولاء. وتطالب عدة أصوات النظام السياسي القائم بالتراجع عن تلك الطقوس، التي يصفونها بالبائدة، خصوصاً تقبيل اليد عند التحية، أو الانحناء في ما يشبه الركوع للملك في حفل الولاء الذي يعتبر الاحتفال الرسمي بعيد العرش في 30 يوليو/تموز من كل سنة. وإن كان الملك يتجنب القبول بتقبيل يده، عبر سحبها بسرعة، ورغم أن الكثيرين بدأوا يكتفون بتقبيل كتفه أو الانحناء له انحناءة خفيفة، فإن أكثر الانتقادات توجه خصوصاً لحفل البيعة والولاء، إذ يصطف منتخبون ومسؤولون تباعاً من أجل تقديم “التحية المخزنية” للملك، استمراراً للطقوس نفسها التي كان ينتهجها والده الحسن الثاني. مظهر آخر من مظاهر استمرار النظام السياسي خلال حكم محمد السادس على “الإرث السابق” لوالده، والذي لم يجد بعد طريقة للقطع معه، هو مراكمة السلطات بين يدي القصر الملكي رغم ما ينص عليه الدستور الجديد من مبدأ فصل السلطات، لكن في الواقع تظهر السلطة المركزية حاسمة في يد القصر. وفي هذا الصدد، تتنامى الانتقادات للحكومة، سواء السابقة برئاسة بنكيران أو الحالية بقيادة العثماني، لكونها لم تنزل مكتسبات الدستور في ما يخص صلاحيات الحكومة، على أرض الواقع وتركها طوعاً لتبقى من “اختصاص الملك”. وتبقى السياسة الدينية، باعتبار الملك “أمير المؤمنين” حسب الدستور، وأمور الجيش والدفاع الوطنيين لكون الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، فضلاً عن شؤون السياسة الخارجية، والتعيينات في المناصب العليا، وغيرها من اختصاص القصر. وبسبب تمركز عدد من السلطات في يد القصر، ارتفعت أصوات حقوقيين وسياسيين معارضين لإرساء ملكية برلمانية، وهو المطلب الرئيس لحركة 20 فبراير/ شباط 2011، باعتبار أن الذي يحكم يتعين أن يُحاسب وفق نص الدستور نفسه.